ديمقراطيون في السودان يشكّكون بالانتخابات
حجّة الثوار الأقوى، غالباً، في رفض الحكومات الدكتاتورية ومواجهتها أنها غير منتخبة، أي غير معبّرة عن الإرادة الشعبية، وتفرض نفسها بالقهر. وبذلك تكون الانتخابات الحرّة النزيهة في مقدّمة مطالب الثوار، وهم ينادون بالحكم الديمقراطي؛ لكن العجيب في ثورة السودان التي اقتلعت نظاماً دكتاتورياً أن فيها من يشكّك في جدوى الانتخابات، ما ظهر أولاً عندما اقترحت القوى المدنية التي تأطرت في تنظيم قوى الحرية والتغيير أن تكون فترة الانتقال أربع سنوات، وهي فترة طويلة، لا تناسب فترة استثنائية، يفترض أن تكون قصيرة لتفسح المجال أمام حكومة منتخبة.
يظل خيار الانتخابات الحل الأسهل للأزمة السياسية في السودان. وكلما ارتفعت الأصوات التي تزعم أن الأزمة تكمن في تشبث العسكريين بالحكم، يطل السؤال: ما دام وجود العسكريين في السلطة مؤقتاً ينتهي بانتهاء الفترة الانتقالية، لينتقل السودان إلى حكم مدني كامل، فلماذا لا يعمل المدنيون على الوصول إلى نهاية الفترة الانتقالية بأعجل وأيسر ما يمكن، حتى يغادر العسكريون السلطة؟
ينصرف المشككون في الانتخابات عن لبّ المسألة بالتهرّب عن مواجهة السؤال إلى وصفٍ معمّمٍ بأن التساؤل محاولة مبسطة لمعالجة أمر معقد، بدون أن يوضحوا أوجه التعقيد في دعوة مباشرة إلى إجراء انتخابات يعبر الشعب فيها عن إرادته الحقيقية، بدلاً من أن تحكمه حكومة انتقالية تستمد شرعيها من وضع ثوري يُفترض ألا يطول؟ تكشف نظرة غير متعجلة إلى المشهد، قبل الوصول إلى النتائج التي يحاول المشكّكون فرضها، أن انقلاب 25 أكتوبر أحدث واقعاً جديداً، وهذه حقيقة لا ينفيها عدم مشروعية الانقلاب، فالواقع الجديد لا يشترط أن يُحدِثه فعلٌ مشروع. وبعد هذا الإقرار، يمكن اللجوء إلى خيارات أخرى غير المواجهة مع العسكريين في معركةٍ غير متكافئة، لا يبدو أنها تسير إلى غاياتها التي رسمها الثوار، وهي معركةٌ عالية التكاليف، دفع لها المشكّكون الشباب المتحمس، مع أنها ليست الخيار الأوحد.
كيف ترفض قوى سياسية معارضة الانتخابات بعد سقوط النظام، واستعادة الحرية كاملة بدلاً عن هامش ضيق؟
وعليه، أول خطوة للربط بين إنهاء الوجود العسكري في السلطة وانتهاء الفترة الانتقالية، إزالة التشكيك غير المبرّر في جدوى الانتخابات، وهو تشكيكٌ لم يبدأ بعد الانقلاب، حتى لا يقال إنه مقبولٌ في وجود قوة عسكرية انقلابية، بل بدأ قبل الانقلاب بكثير، عبر تسريبٍ هامسٍ يخيف من انتخاباتٍ تعيد حزب المؤتمر الوطني إلى الحكم، تشكيكٌ يفتح الباب أمام تأجيلاتٍ لا تنتهي للانتخابات، بزعم عدم توفر الضمانات المانعة لهذه العودة، وبذلك منحت قوى مدنية محدّدة نفسها حق الوصاية على المسار الديمقراطي، وفق "تقديراتها". ولا يخفى أنه مسلك مهدّد للتحوّل الديمقراطي، كان من المفترض أن يُقابل بالرفض الحاسم قبل الانقلاب، وما زال رفضه ضرورياً، فالانتخابات هي التتويج المنطقي للفترة الانتقالية، وهي الإعلان العملي لنهاية هذه الفترة التي بانتهائها ينتهي الوجود العسكري في السلطة. وعلى الرغم من وضوح هذه العلاقة المنطقية، يبدو جلياً أن قوى مدنية تعلم جيداً هذا، إلا أنها تعلم أيضاً أنها ستصحب العسكريين في المغادرة النهائية. لذا تقلقها أية إشارة إلى انتهاء فترة الانتقال، فتصرف الأنظار عن هذا "الكابوس" بالتشكيك في الانتخابات ذاتها!
ولكشف عبثية المشكّكين في انتخاباتٍ يشرفون هم عليها، نستعرض التحوّلات خلال حكم النظام السابق، وكيف أن قوى سياسية معارضة رأت في مرحلةٍ إمكانية منازلة "المؤتمر الوطني" في الانتخابات، على الرغم من شكوكٍ كثيرة، ومن ثبوت التزوير في دوائر كثيرة، فإذا اعتبرت تلك القوى إمكانية الاستفادة من هامش الحرية بعد اتفاقية السلام الشامل، بمنازلة حزب النظام السابق، فكيف ترفض الانتخابات بعد سقوط ذلك النظام، واستعادة الحرية كاملة بدلاً عن هامش ضيق؟ إنها دعاوى زائفة تعرّي أغراضاً خفية لهذه القوى.
التحوّل الأكبر في نظام البشير حدث بعد اتفاقية السلام الشامل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان
استمر نظام عمر البشير في حكم السودان ثلاثين عاماً، حتى أطاحته ثورة شعبية في 2019. لم يكن على حال واحد في سنواته العديدة تلك، فقد كان في عشريته الأولى دكتاتورياً قابضاً يقابل كل معارضةٍ بعنفٍ مفرط، خشية سقوط محتمل، وهو محاط بقوى وطنية معارضة وقوى إقليمية رافضة. وفي مرحلة لاحقة، أبدى قدراً من المرونة بعد انشقاقٍ طاول صفوفه، حين أزاح جناحٌ في الحركة الإسلامية المسيطرة على الحكم جناحاً آخر قاده القائد التاريخي للحركة الإسلامية، حسن الترابي. ولكن التحوّل الأكبر في النظام حدث بعد اتفاقية السلام الشامل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان التي كانت تشنّ حرباً مرهقة بدأتها قبل وصول البشير إلى الحكم، في صراع بين شمال السودان وجنوبه. وأفضت الاتفاقية إلى دستور جديد، نصّ على الحريات العامة، فانعكس ذلك على الحياة السياسية في السودان، ففتحت الأحزاب دورها وأصدرت صحفها حين اتسعت كثيراً كوّة الضوء. خشي النظام من أجواء الحرية الجديدة، فاستغلّ تمكّنه من مفاصل السلطة في ممارسة التضييق، لكنه لم يتمكّن من التأثير على الفضاءات المفتوحة، فتواصلت الندوات ونشرت الصحف الآراء المعارضة، فاضطرّ النظام لممارسة نفوذه في ميادين لا يصل إليها الضوء، فعمد إلى الوصول ليلاً إلى صناديق الاقتراع بالتزوير. وعلى الرغم من ذلك، رأت قوى سياسية معارضة إمكانية الاستفادة من الفضاءات المفتوحة لشلّ قدرة "المؤتمر الوطني" في الغرف المظلمة، فقرّرت منازلته في الانتخابات على الرغم من القيود، وما حمله ذلك القرار من مغامرة سياسية، لكنه يشير إلى ضرورة الاستفادة من أي مساحة للحرية. وها قد سطعت شمس الحرية بلا ضباب، فهل من عذرٍ للتشكيك في الانتخابات؟