ذروة غضب تواكب ذروة الوباء
يمرّ الأردن والأردنيون، في هذه الآونة، بحالةٍ غير مسبوقة من البلبلة واللايقين. وذلك من جرّاء تفشي وباء كورونا، وعقب وقوع كارثة في مستشفى السلط، قريبا من العاصمة عمّان، أودت بحياة تسعة ضحايا لنقص طارئ في إمدادهم بالأوكسجين. وفي ظل مصاعب اقتصادية وحياتية، نتيجة الإغلاقات التي تفرضها إجراءات مكافحة الوباء والوقاية منه. وعلى الرغم من أن حادثة المستشفى قوبلت باهتمام عاجل على أعلى المستويات (من الملك)، وأدت الى إقالة وزير الصحة وخمسة من كبار المسؤولين عن المستشفى وإحالتهم إلى القضاء، إلا أن مسيرات غاضبة انطلقت من مدينة السلط ( 10 كيلومترات غرب العاصمة)، وشملت مدنا عدة، وتزامنت مع كسرٍ لتعليمات الحظر الليلي، قبل أن تهدأ حدّتها، مصحوبة بحملة توقيف لبعض المحتجّين والمشاركين، و"بعضهم من جنسيات عربية" كما ذكر بيان رسمي.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، إذ حفلت وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع إخبارية إلكترونية بكتاباتٍ، بعضها لمسؤولين سابقين، ذات طابع نقدي صريح، ونبرة مريرة ضد الترهل الإداري ومراوحة خطوات الإصلاح السياسي، مع دعوات متكرّرة إلى ترجمة الأوراق الملكية الإصلاحية. وقد شارك مجلس النواب في توجيه حملات النقد، حتى أصبح الكل تقريبا ينتقد الكل، وسادت موجة من التطيّر والسوداوية، إلى درجة أن الناطق الرسمي باسم الحكومة، صخر دودين، صرّح، في معرض تعليقه على الوضع الوبائي، إن"الحكومة لم يعد يمكنها أن تفعل المزيد"، وهو تصريح مستغرب، فمهمة الجهات الرسمية هي فعل المزيد، وهذا مبرّر وجود المسؤولين على رأس مناصبهم، ورافقتها ظاهرة إعلان عشائر تجديد تأييدها وولائها للحكم والحكومة.
الوضع في الأردن بشأن كورونا حتى تاريخه أقل سوءا عما هو عليه في الإقليم، في إسرائيل وتركيا وسورية والعراق والسعودية واليونان، وهي دول الإقليم المحيطة والقريبة
واقع الحال أن وضع الوباء مقلق، وذلك مع تضاعف عدد الإصابات والوفيات في الأسبوعين الأخيرين، غير أن الإحصائيات تفيد بأن الوضع في الأردن حتى تاريخه أقل سوءا عما هو عليه في الإقليم، في إسرائيل وتركيا وسورية والعراق والسعودية واليونان، وهي دول الإقليم المحيطة والقريبة. وأن المطاعيم شحيحة نسبيا، لكن نسبة الاستنكاف عن تلقيها تثير القلق، إذ تراوح بين 20% و40% يوميا. وأن الحكومة تتجه إلى وضع القطاع الصحي الخاص ضمن الخطط الوقائية والعلاجية، وقد تم توفير مستشفيات ميدانية في عديد المدن، وتتم مراقبة العابرين عبر الحدود وفحصهم لمنع التسرّب. ويقع في الأردن ما يقع في عشرات الدول من مفاجآت الموجات المستجدّة والسلالات المتحولة للوباء. وإذ كشف الوباء بعض عيوب الجهاز الإداري، فإنها متوارثة وقديمة، وتتعلق بنقص الإرادة الحكومية في الإصلاح وسياسة التوظيف التي تقوم على الاسترضاء أو الإثرة، واضطراب مفهوم المواطنة وتضاربه بعد مائة عام على نشوء الدولة، وكذلك نقص الإرادة الاجتماعية على مدى عقود في تحمّل كلفة الإصلاح، والتي تعني، في بعض جوانبها، الحد من التوظيف في القطاع العام، ووضع شروط صارمة عليه، وكذلك محاسبة الموظف على أدائه.
اختلاط مفهوم مكافحة الوباء واتباع الإجراءات الوقائية، مع التوسع في المخالفات وانتقائيتها أحيانا
لو كانت هناك وصفات سحرية للتغلب العاجل على الوباء، وفتح القطاعات الاقتصادية، لأخذت بهذه الوصفات الدول المتقدّمة التي تعاني الأمرّين من تفشّي الوباء، ومن الصعوبة المتفاقمة في السيطرة عليه، غير أن نقطة الانطلاق هي تلقي اللقاحات. وقد تمكّن الأردن من الحصول على لقاحاتٍ تكفي، في المرحلة الأولى، 20% من السكان، فيما ينتظر خلال مارس/ آذار الجاري وصول مزيد من الدفعات، في وقتٍ تتهافت فيه الدول على الحصول على اللقاحات، وتعاني صعوبة في ذلك، ومنها دول أوروبية (ألمانيا وإسبانيا وهنغاريا وبلغاريا وغيرها). وخلال الأسابيع الماضية، راجت نظريات المؤامرة عن "سوء "اللقاحات الغربية (وكأن نظامنا الطبي برمته، من إعداد أكاديمي وأدوية ومستلزمات وأجهزة ليس غربيا بالكامل ومنذ عقود، إلى جانب صناعات دوائية محلية مزدهرة تقتفي الخبرات الغربية).
وجُملة ذلك يدل على بلبلة اجتماعية وثقافية في مجتمع تتجاور فيه المحافظة مع الحداثة مع طغيان الأولى، وتسوده عقلية الحق بالرعاية الحكومية الشاملة (على نحو يكاد يشبه الحال في دول الخليج العربية، على الرغم من الفرق الشاسع هنا وهناك)، وعلى تململ الإدارة العامة بعد عقود من ركودها، وعقب تطوير إداري شمل وزارات ومؤسسات ومرافق دون سواها، ومع استمرار بعض مظاهر أمننة الحياة العامة، وهو ما شكا منه تقرير لهيئة حكومية (المجلس الاقتصادي الاجتماعي في تقريره عن حال البلاد لعام 2019)، ومع اختلاط مفهوم مكافحة الوباء واتباع الإجراءات الوقائية، مع التوسع في المخالفات وانتقائيتها أحيانا، وسلوكها مسلكا جبائيا في بعض الحالات، على الرغم من تقلقل الوضع الاقتصادي للأفراد وللمحال التجارية.
الأمل معقود على تجاوز الأردن تحدّي المرحلة بحفظ النظام الصحي من التصدّع أو الانهيار تحت ضغط زيادة الحالات المصابة
لقد ارتفعت، في الأثناء، أصوات تطالب بإقالة الحكومة وعدم الاكتفاء بالإجراءات التي اتخذت بحق مسؤولين مباشرين في وزارة الصحة. وهي دعوة لا تخلو من الوجاهة، استنادا إلى منطق أن المسؤولية تضامنية في مجلس الوزراء، غير أن ذلك لن يؤدّي، في هذه الظروف، سوى إلى الغرق في دوامة تبديل الحكومات إلى ما لا نهاية، علماً أنه لم يمض سوى ستة أشهر على تشكيل حكومة بشر الخصاونة الحالية التي تحملت، بغير مواربة، مسؤولية ما حدث منذ الساعات الأولى للمأساة، والتي شهدت تعديلاً واسعاً في السابع من مارس/ آذار الجاري، وخرج منها قبل التعديل بأيام وزيرا الداخلية والعدل لمخالفتهما تعليمات الحظر، في خطوة رمزية لا سابق لها بحق وزيرين يتوليان حقيبتين سياديتين، قبل أن يتم لاحقا إقالة وزير الصحة. وخلال ذلك، استقال وزير العمل بعد أدائه اليمين الدستورية، وحضوره الجلسة الأولى لمجلس الوزراء بعد التعديل الذي طرأ عليه. ولا يحتمل الوضع الحكومي (والإداري العام) مزيدا من التبديلات في هذه المرحلة، كما لا يحتمل إضفاء مزيد من الاستعانة بشخصياتٍ ذوي خلفية غير مدنية (عسكرية)، فالبلاد في حالة طوارئ صحية واقتصادية، وليس أكثر أو أبعد أو غير ذلك، وما زال الطموح قائما لدولةٍ مدنيةٍ وقد تبدّى ذلك في بعض أطروحات الأوراق الملكية الإصلاحية. والأمل معقود على تجاوز تحدّي هذه المرحلة بحفظ النظام الصحي من التصدّع أو الانهيار تحت ضغط زيادة الحالات المصابة، وأن تأخذ العدالة مجراها بخصوص مأساة مستشفى السلط، وأن يفرج عن الموقوفين المحتجّين، وعدم التضييق عليهم بعد إخلاء سبيلهم، وأن يمضي الإصلاح الإداري والسياسي إلى الأمام، وعدم إشهار الذرائع من هنا وهناك في وجه هذه الاستحقاقات، ولنا في الدول المتقدّمة والمزدهرة أفضل قدوة لنا.