ذكرى الهزيمة في أرذل الأزمنة
مرّت، أخيرا، ذكرى هزيمة 5 يونيو/ حزيران 1967، الهزيمة التي جعلتنا نكتشف مختلف ثغرات المشروع القومي العربي، ونرى بأعيننا أخطاء حسابات حركات التحرّر العربية، أخطاء الأنظمة السياسية التي كانت تتغنّى بالتحرّر والعودة القريبة، إضافة إلى أخطاء تقديرات الأنظمة العربية الأخرى، التي ظلّت على هامش القضية، وذلك من دون أن نتحدّث عن مواقف المنظمات الدولية، وقد اختارت التمييز الذي كَرَّس الانحياز للقوى الاستعمارية ومخلفاتها..
انتبه المتابعون لتحوّلات المشروع الوطني الفلسطيني إلى أن مرور ما يقرب من ستة عقود على حصول الهزيمة الكبرى منح الكيان الصهيوني كل الروافع الضامنة اليوم، لصور تغلغله في قلب فلسطين، وفي قلب المشرق والمغرب العربيين. لم يَمُرّ موعد الذكرى بسهولة، كما اعتدْنا مرورَه في السنوات التي خَلت، فقد كان حلولُه هذه السنة بالذات، يدفع إما إلى الصمت أو إلى البكاء، أو يدفع إليهما معاً مرّة واحدة، الصمت المصحوب بالبكاء ... أو يدفع، في حالات أخرى، إلى إقامة نوعٍ من التناوب بينهما، الصمت ثم البكاء ثم الصمت.
وأنا أُحرِّر أحرف الكلمات الأخيرة في الجملة التي رسمت أمامي، فاجأني صوتٌ أعرف نبرته: لا علاقة لِما تُسطِّره الآن، بمناسبة حلول ذكرى الهزيمة، بما سبق أن فكّرت فيه في مناسباتٍ أخرى، قريبة أو مماثلة لما نحن الآن بصدد التفكير فيه ... ثم أضاف في السياسة والتاريخ تتّسع المسافات وتُبْنَى المواقف والخيارات بروح أخرى، طلبت من الصوت الذي اخترق ما أكتب، أن يتركني أُتَمِّم التعبير عن تصوّري للحال والمآل.
لم يكن اختيار الصمت ممكناً يوم الذكرى، فكيف نستطيع الصمت أمام كل مظاهر الغطرسة الصهيونية، وأمام كل ما آلت إليه أحوال القضية اليوم؟ ما زالت الذكرى تواصل حضورها السنوي في أزمنة الاحتلال، أزمنة الغطرسة الصهيونية المتواصلة والتمييز العنصري. لم يَكن أمر مواجهة حلول الذكرى بالصمت مُمكِناً، ذلك أن تاريخ الهزيمة يحضر مُحَمَّلاً بأصواتٍ مُجَلْجِلَة بأدبيات المقاومة الفلسطينية وأفعالها، أدبيات الوحدة والمقاومة والتحرير، أدبيات الانتفاضتين، الأولى والثانية، أدبيات شهداء الفداء، وقد ملأوا المدن والقرى الفلسطينية طوال قرن ... يتوالى حضور ذكرى الهزيمة سنوياً مُحمّلاً بأصوات مئات الشهداء وأصوات مئات السجناء في الأقبية الإسرائيلية، وآلاف النازحين والمهجّرين. يواصل الصهاينة بناء الأسوار والمستوطنات وبدون انقطاع، يتوالى حضور الذكرى تملأه أصواتُ الأطفال والنساء والشيوخ، وقد عَمَّروا في فترة معيّنة المخيمات، ثم طَوَّحَت بهم دوائر الزمن في الشتاتين، القريب والبعيد، فلا صمت بعد اليوم.
ركّب الفلسطينيون، بجوار ما آلت إليه أوضاعهم، جملة من الفنون التي منحت القضية أصواتاً وألواناً أخرى، يصعُب نسيانها أو إغفال أدوارها
تذكّرت خطابات السلام والدولة الفلسطينية المنتظرة، فوجدتُ نفسي أمام دروب مظلمة ومغلقة، تذكّرت أحوال التنظيمات الفلسطينية الثورية، وفي مقدمتها منظمّة التحرير، وانتبهت إلى أنها ما زالت تنطق وتغني بحضورها الرمزي. تذكّرت مواقف قِوى التحرّر في العالم، وقد واصلت بدورها التنديد بجبروت الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، من دون أن تجد الآذان الصاغية، فكيف أختار الصمت؟ وأنا أواصل الاستماع إلى كل ما أشرت إليه من خطاباتٍ وأفعالٍ ومواقف، فتأكّدت أن الصمت كلام غير مسموع، وهو اليوم يملأ أرجاء أرض فلسطين. ثم تساءلت كيف يحصل الصمت، وقد ركّب الفلسطينيون، بجوار ما آلت إليه أوضاعهم، جملة من الفنون التي منحت القضية أصواتاً وألواناً أخرى، يصعُب نسيانها أو إغفال أدوارها.
لنعد إلى موضوع بديل الصمت زمن حلول الذكرى، لنعُد إلى خيار البكاء، ولا أريد أن أسمع من أحدٍ اللازمة المعروفة، لا وقت اليوم للبكاء، فقد يكون البكاء مناسبةً لإنجاز رؤية أفضل لما جرى، ولِما يتواصل جريانه ولا نستطيع رَفْعه، البكاء بِحُرقة الدّمع والأنين، البكاء الحارّ من دون دمع ولا أنين، صوت البكاء وصمت البكاء، حيث يصعُب الصمت بل يستحيل من دون كلام..
ليس من عادتي أن أقف في مثل هذه المناسبات أمام خياريْن، من قَبِيل ما ذكرت، ولكن زمن الذكرى وأحوال الفلسطينيين والعرب اليوم أرغمني على ذلك، واقع حال القضية يدفع نحو واحدٍ منهما، أو نحوهما معاً ... وضمن هذا الأفق، صَاحَبت لحظة الصمت المفترضة في ذهني، أحاديث السلام الملغوم وأحاديث مقاومة الصهيونية، ومقاومة إجراءات السلام الكاذب. وقد صَاحَب ذلك كله ما يجري اليوم بين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، الانقسام الذي لم يعد بإمكان أحدٍ من الفلسطينيين التخلص منه أو تجاوزه.. لم تعد كلمة الفلسطينيين واحدة، ولم يعُد التحرير اليوم أو غداً أمراً ممكناً. ولم يعد الأمل في استرجاع مختلف الحقوق مطلباً تؤكّده المقرّرات الدولية والمؤتمرات التي عُقدت، لم يعد أمراً ممكناً. نواجه اليوم، في زمن الذكرى، أرذل فترات الزمن الفلسطيني والعربي، زمن التطبيع الأعمى.
انخرطت الأنظمة العربية، كما جامعة الدول العَرَبيةَ والتجمّعات الإقليمية العربية، في أشكالٍ من الفعل الداعم لصور الحضور الإسرائيلي في المنطقة
انخرطت الأنظمة العربية، كما جامعة الدول العَرَبيةَ والتجمّعات الإقليمية العربية، في أشكالٍ من الفعل الداعم لصور الحضور الإسرائيلي في المنطقة العربية. أصبحنا أمام جوقة كاملة من المطبّعين الجُدد، واكتفى الجميع في مؤتمري القمة العربية أخيرا، في كل من الجزائر والسعودية، بِجُمَلِ التضامن التي لا علاقة لها بواقع الحال في الأرض المحتلّة، واقع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وواقع نظام الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة والقطاع، فكيف نتعامل مع واقع الحال، وقد ضاقت بنا السبل وأُغْلِقت الدروب؟
لا يسمح خيار الصمت برفع المظالم والعدوان والتوطين والضّم، ومختلف صوّر التنكيل التي تمارسها إسرائيل في قلب القرى والمدن الفلسطينية، ولا يسمح البكاء بالدمع الحارق والأنين بِوَقْف شبكات التطبيع، التي تواصل بها إسرائيل مزيداً من التغلغل في الخليج والمشرق والمغرب العربيين. انتهى زمن القضية الفلسطينية قضية عربية. لم تعد كذلك إلا في جمل مؤتمرات القمّة، حيث اختارت الأنظمة المطبّعة هنا وهناك، وبدون أدنى حرج ولا خجل، أن تكتفي بالقول بعروبة القضية عن بعد، وتمنح فلسطين كاملة لإسرائيل. اختفى شعار عودة اللاجئين، وجرى تغييب شعارات الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، واكتفى القائمون في ما تبقّى من الأرض بضمان الأمن الإسرائيلي وتهدئة الأوضاع، من أجل العودة إلى تنفيذ وعود وإجراءات اتفاق أوسلو. وقد أصبحت بدورها من مخلفات زمنٍ آخر، فلا حَلّ سلمي ولا دولة فلسطينية وكل الدروب مغلقة، ولا قدرة لا على الصمت، ولا قدرة على البكاء.