ربيع إيران... وخريف العرب
يكتشف المتابع للموقف العربي، إجمالاً وتفصيلاً، من أحداث الشارع الإيراني الحالية، أمراً غريباً، لا يتناسب حتى مع أبسط قواعد المنطق، وهو الصمت الرسمي تجاه ما جرى ويجري من جهة، والحذر الإعلامي في التناول من جهة أخرى، على الرغم من تزامن الأحداث مع تسخين الموقف السياسي، على المستويات العسكرية والنووية والطائفية، وكلّ ما هو إيراني، سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي.
كشف التناول العربي للأحداث الإيرانية الجارية أخيراً أنّ هناك مخاوف واضحة من كلّ ما هو ربيع، وكلّ ما هو ثوري، وكلّ ما هو شعبي، حتى لو تعلق الأمر بإمكانية إطاحة الخِصم، ذلك أن المدّ الثوري يلوح في الأفق فوراً، والربيع يطلّ برأسه، لا يعرف التمييز بين ما هو عربي وما هو فارسي، كما أنّ الشعوب، من وجهة النظر الرسمية، تُصاب بعدوى التمرّد كما عدوى كورونا تماماً، وهو الأمر الذي عاشت وتعيش معه بعض عواصم المنطقة خريفاً مرعباً طوال أيام الحراك الشعبي الإيراني، ولو استدعى الأمر لما تردّدت هذه العواصم في إمداد طهران بما يساعدها على وأد ذلك الذي يجري!
ما يؤكّد ذلك أن طهران أعربت عن امتعاضها واعتراضها على التناول السياسي والإعلامي للأحداث من الولايات المتحدة تحديداً، وبعض دول الغرب، إلّا أنّ العرب لم يكونوا أبداً كذلك، ولو أنّ الأمر احتاج إلى تصنيفٍ لتقدّمت لهم إيران برسائل شكر وامتنان، على موقفهم "النبيل" بأثر رجعي من أحداث مشابهة في أعوام 2009 و2017 و2019.
كشفت التظاهرات في إيران وغيرها أنّ أخلاقيات الغرب ما هي إلّا شعاراتٌ زائفة، صدّعونا بها عقوداً عدة
ربما لم تفعل إيران ذلك، لأنّها تعي جيداً أنّ المصلحة مشتركة في هذا الصدد تحديداً، ليس في ما يتعلق بالثورات في إيران فقط، وإنّما من كلّ ما هو ثوري في العالم، بل من كلمة "ثورة" في حدّ ذاتها، والتي قد لا تجد لها أثراً في وسائل الإعلام من المحيط إلى الخليج إلّا ما ندر، أصبحت الكلمة تدخل في قاموس العيب، أو قائمة الممنوعات، هو حال الأنظمة الديكتاتورية في العالم عموماً، لكن لأنّ منطقتنا العربية هي آخر ما تبقّى من ديكتاتوريات، فيصبح الأمر على رؤوس الأشهاد.
مئات القتلى والجرحى وآلاف المعتقلين في عشرات المدن الإيرانية، خلال هذه التظاهرات أو تلك، لم تعد تحرّك ساكناً في العالم أجمع، بخلاف تصريحٍ من هنا أو السماح بتجمّع احتجاجي أمام السفارة الإيرانية هناك، بما يشير إلى أنّ ما يتشدّق به الغرب هو الآخر من حقوق إنسان وحريات، وحق التعبير وحق الحياة، والمواطنة ومقاومة التمييز، ما هي إلّا شعارات للاستهلاكين، المحلي والدولي.
أخيراً، التقى العرب وإيران على هدف واحد، وأد تطلعات الشعوب
لقد كشفت هذه التظاهرات وغيرها أنّ أخلاقيات الغرب ما هي إلّا شعاراتٌ زائفة، صدّعونا بها عقوداً عدة، وقد استوعبتها الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة العربية سريعاً، من خلال صفقات تسليح تارّة، وإبرام عقود مع شركات مختلفة تارة أخرى، ما بين كهرباء وغاز وتحلية مياه ومحطات نووية واستيراد سلع تضمّنت في بعض الأحيان أدوات تعذيب! وربما أموال نقدية لمسؤولين بارزين، مما كان له أكبر الأثر في استمرار الوضع الراهن بالمنطقة.
لن نُفاجأ، إذاً، إذا اكتشفنا، ذات يوم، أن هناك تنسيقاً عربياً - إيرانياً، برعاية دولية، وحتى إسرائيلية، لمكافحة تطلعات شعوب المنطقة نحو الحرية، بل والتقدّم والتطوّر، ذلك أنه بدا واضحاً تطابق المصالح، والشعوب في النهاية هم الضحايا، ما داموا يعوّلون الآن على التدخل الأجنبي، أو على الضغوط الخارجية في الحصول على حقوقهم أو انتزاع حرّياتهم، وهو ما يظهر جلياً في جهود بعض النخب، سواء التي تعيش في الخارج، أو التي استكانت في الداخل، أو حتى من هم داخل السجون والمعتقلات.
الغريب أن منظمات المجتمع المدني في العالم العربي لم تعد تتضامن هي الأخرى، ولو شكلياً، مع هذا الشعب أو ذاك، بعد عمليات البطش التي طالت هذه الجمعيات، ما بين معتقلين، ومطاردين، ومجمّدين، ومصادرات هنا وتهديدات هناك، فقد تجد هذه المنظمات نفسها متهمة بالإساءة إلى دولة شقيقة أو حتى صديقة، إذا ما صدر عنها بيان تنديدٍ أو استنكار لذلك الذي يجري من قتل وترويع على الأرض، وهو ما جعل مواقف هذه المنظمات تبدو متطابقة مع المواقف الرسمية في الصمت التام، أو الموت الزُؤام.
جاء الموقف العربي الرسمي من الأحداث الإيرانية ليكشف كم أنّ أنظمة بثّ الرعب هي التي تعيش في رعب
أخيراً، التقى العرب وإيران على هدف واحد، وأد تطلعات الشعوب. هكذا بدت ردود أفعال السياسيين صمتاً، وهكذا كان التناول الإعلامي مشوّهاً، الأنظمة السياسية العربية في مجملها ترتعد كلما سمعت عن تحرّك شعبي هنا أو هناك، حتى لو كان في أقصى دول الأميركتين، أو الجنوب والغرب الأفريقي، وعلى الرغم من أن تجارب الأمس القريب أثبتت أنّ السكون، أو الصمت الشعبي، ما هو إلا حالة مؤقّتة تسبق العاصفة، إلّا أنّ معظم الأنظمة السلطوية لا تلقي بالاً لهذه الحالة، وتتحرّك دائماً بعد فوات الأوان، أو بعد "خراب مالطا"، كما هو التعبير الشائع.
ربما كان الحكم بالحديد والنار، أو حكم الشعوب رغماً عنها، هو الرابط الأول بين معظم أنظمة المنطقة حالياً، رأينا وفوداً أمنية تطير من دولة إلى أخرى لإمدادها بخبراتها المتراكمة في هذا المجال، قرأنا كثيراً عن دعم مالي من دولة لأخرى لمساعدتها على قمع المعارضين وشراء النخبة، والاستحواذ على الميديا الإعلامية بأنواعها المختلفة، التعاون الإعلامي في هذا الصدد لا تخطئه الآذان، التعاون الأمني بلغ ذروته في مواجهة الشعوب التي تتطلع إلى بصيصٍ من حرية الرأي والتعبير ليس إلا.
على أي حال، جاء الموقف العربي الرسمي من الأحداث الإيرانية على هذا النحو ليكشف كم أن أنظمة بثّ الرعب، هي التي تعيش في رعب، وأن إلقاء حجرٍ في مياه راكدة في الخليج، يمكن أن يحرّك المياه الباردة في المحيط، وأن شعباً يتألم هنا، قد يكون ملهماً لآخر يتأوّه هناك، ذلك أن الأزمة واحدة، كما المعاناة واحدة، كما الظلم تماماً، وهو ما فطنت إليه الأنظمة مبكّراً، وهي فطنة تُحسد عليها، ذلك أن الشعوب لم تسبقها إلى ذلك، رغم أنها كانت الأَوْلى بالتنسيق، وهو أمرٌ إن تم عظيم.