رسائل انقلابات أفريقيا
امتدّ حزام الانقلابات العسكرية في أفريقيا ليشمل، في ظرف ثلاث سنوات، ستّ دول في وسط القارّة وغربها: مالي، وغينيا، وبوركينا فاسو، وتشاد، والنيجر، وأخيراً الغابون. ومعلوم أنّ الانقلاب العسكري مذمومٌ في الأدبيات السياسية الحداثية باعتباره مؤسّساً على استخدام القوّة وتوظيف الأجهزة المسلّحة لإحداث تغييرٍ في تركيبة المنظومة الحاكمة، ولا يستند إلى أصوات الناخبين، وصناديق الاقتراع، وفاعلية مكوّنات المجتمع المدني لتحقيق تحوّل في هرم السلطة. والواقع في السياق الأفريقي أنّ جلّ الحكّام المنقلب عليه دجّجوا أنفسهم وبطانتهم بالمال، والسلاح، والبروباغندا الزائفة واستقووا بالأجنبي لحماية عروشهم وضمان استمرار نفوذهم، حتّى عزّ تغييرهم بطرق ديمقراطية سلسة، ترتكز على منطق الانتخاب والتنافس السلمي على الحكم. لذلك، بدا تدخّل الجيش أو الحرس الرئاسي لإطاحة الزمرة الحاكمة شرّاً لا بدّ منه، في نظر مراقبين، لإعادة صياغة ملامح المشهد السياسي، وتخليص الناس من سطوة حكّام مستبدّين جثموا على قلوب المحكومين طويلاً، وكتموا أصواتهم، صادروا حقوقهم، وحكموا بلدانهم بطريقة غير شفّافة، وغير عادلة، فالانقلاب العسكري هنا اختراق داخلي للمنظومة الشمولية السائدة، يحمل طيّه طاقة تغييرية. لكن من الصعب التكهّن بمداها الإصلاحي وحدودها، فقد يكون الانقلاب المسلّح ترجيعاً للقديم وإعادة إنتاج للسلطوية، كما قد يكون باباً للتجديد وترشيد الحكم وتسليمه للمدنيين. والثابت أنّ موجة الانقلابات التي شهدتها القارّة السمراء في السنوات القليلة الماضية تبعث عدّة رسائل إلى الداخل والخارج.
داخلياً، يمكن القول إنّ الحراك الانقلابي المشهود في أفريقيا وجّه رسائل إلى الشعوب الأفريقية، أهمّها الانتفاض على العائلية السلطوية الفاسدة، ونقض الديمقراطية الكرتونية، وتصعيد الشباب إلى مواقع صناعة القرار، والدعوة إلى الحوكمة والتنمية الشاملة، مع تأكيد وحدة الصف الداخلي، ولزوم السلمية.
الضبّاط/ الحكّام الجدد لم يحوّلوا بعد وعودهم الوردية إلى واقع. كما أنّ هويتهم البرامجية ما زالت غير واضحة
كان واضحاً في أكثر من بلد أفريقي أنّ ميْل رئيس الدولة إلى التمكين لنفسه، وأسرته، والتمديد في ولايته بطريقةٍ غير مشروعة واستئثاره بأسباب الثروة والنفوذ، واستقواءه بالسلاح، والجاه، والولاء للأجنبي، وانخراطه في دوائر الزبونية والفساد وسوء الحوكمة، من الأسباب القادحة لحدوث انقلابات في أفريقيا، فمحاولة رئيس الغابون، علي بونغو، مثلاً، التمديد لنفسه لولاية ثالثة من خلال تزوير الانتخابات، وتواتر معلومات عن ثرائه الهائل وأسرته بطرق مشبوهة وهيمنة عائلته على دواليب الحكم طيلة 56 سنة، دفع ذلك كله الحرس الجمهوري وثلّة من ضبّاط الجيش إلى خلعه. كما احتجز الحرس الرئاسي رئيس النيجر السابق، محمد بازوم، واتّهمه بـ"سوء الحوكمة"، وعلى أساس ذلك برّر انقلابه عليه. وأطاحت القوّات الخاصّة في غينيا الرئيس ألفا كوندي الذي سبق أن عمد إلى تعديل الدستور لتغيير القواعد التي تمنعه من الترشّح لفترة ثالثة. ومن ثمّة تعامل الرئيس المدني في سياق أفريقي مع الحكم باعتباره غنيمة، وملكية خاصّة دائمة، وتصرّف على هواه في إدارة البلاد، وتركيم النفوذ والثروة. وهو ما دفع القوّات المسلّحة إلى الامتعاض من سياساته، والمبادرة بدحره من كرسي الرئاسة. وهي بذلك تبعث رسائل اعتراض على الحكم الفردي والعائلي، وعلى نهج التوريث، والاستئثار بالحكم آماداً طويلة وبطرق غير دستورية.
وتدثّرت معظم الأنظمة الشمولية في غرب أفريقيا بعباءة الديمقراطية الشكلية مع منعطف الألفية الثالثة، ففتحت المجال نسبيّاً للتعدّدية الحزبية وحرّية التعبير، ونظمّت انتخابات بصفة دورية (مالي، النيجر، غينيا، الغابون...)، ووضعت دساتير مدنية. وذلك تحت وطأة ضغوط الدول الغربية والصناديق المانحة (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي)، وتحت يافطة القيام بإصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية. لكنّ الديمقراطية المعتمدة في المنطقة ظلّت هشّة، ولم تتجاوز حدود ديمقراطية الواجهة التي وظّفتها الأنظمة الأوتوقراطية لتلميع صورتها في الخارج، فجلّ الاستحقاقات الانتخابية شابها التزوير، وتمّت في غيْبة مراقبين محليين ودوليين، وجلّ الدساتير تمّ تعديلها للتمديد في مدّة حكم الرئيس. بل ازدهرت في ظلّ الديمقراطية الأفريقية الهجينة مافيات الفساد، ولوبيات الدعاية المضلّلة، وخطاب الكراهية على نحو ساهم في تأجيج العنف وتقويض السلم الأهلي. وحلّت بدل مفاهيم الحكم المحلّي، والشفافية، والوحدة الوطنية، وسيادة القانون مفاهيم المركزية، والتزييف، والانقسام الاجتماعي، والمحاباة والمحسوبية. وبناء عليه، جاءت الانقلابات العسكرية لنقض ديمقراطية كرتونية، ساهمت في مأسسة الفشل، ولم تنجح في تحقيق التنمية الشاملة، وتحسين الوضع المعيشي للمواطنين. لكن من غير المؤكّد أن تنجح النخب العسكرية في إنتاج نظام حكم رشيد بديل عن الديمقراطية الأفريقية العرجاء. ذلك أنّ الضبّاط/ الحكّام الجدد لم يحوّلوا بعد وعودهم الوردية إلى واقع. كما أنّ هويتهم البرامجية ما زالت غير واضحة.
لم يتمّ التنكيل بجلّ الرؤساء المطاحين، بل ناشد بعضهم القوى الدولية دعمهم، ولم يخاطبوا شعوبهم لنصرتهم وشدّ أزرهم، لمحدودية شعبيتهم في الداخل
والملاحظ أنّ الانقلابيين في السنوات الأخيرة في أفريقيا استهدفوا تغيير حكّام بلغوا من العمْر عتيّاً وقت إزاحتهم من كرسي الرئاسة، ألفا كوندي (83 سنة)، إبراهيم أبو بكر كيتا (74 سنة)، إدريس ديبي (68 سنة)، روش كابوري (65 سنة)، علي بونغو (65 سنة)، محمد بازوم (63 سنة)، وعمدوا إلى تنصيب وجوه شابّة حمّلوها مسؤولية رئاسة البلاد، وهي رسالة معبّرة، دالّة على وجود رغبة أكيدة لدى العساكر الجدُد في تصعيد الشباب إلى مواقع القيادة وصناعة القرار، على نحو يساهم في ضخّ دماء جديدة في مؤسّسة رئاسة الجمهورية، ويبعث رسائل إيجابية إلى الأجيال الصاعدة في قارّة 60% من سكّانها من الشباب.
على صعيد آخر، بدا الفعل الانقلابي، في جانب ما، رسالة احتجاج على سياسات تنموية فاشلة شهدتها أقطار أفريقية عقوداً، فجلّ بلدان القارّة تزخر بثرواتٍ طبيعية ثرّة ومعادن نفيسة جمّة، وتتوفّر على موارد بشرية هائلة. ومع ذلك، ما زالت تعاني من ارتفاع منسوب البطالة واتساع دوائر الفقر. ومثال ذلك أنّ النيجر تمتلك أكثر من 69 منجماً للذهب، وتحتلّ المرتبة السادسة عالميا في إنتاج هذا المعدن النفيس، وفيها قرابة 5% من احتياطياته العالمية، وهو خُمس صادراتها، وعندها احتياطي من النفط يقدّر بـ320 مليون برميل، وتنتج حوالي 20 ألف برميل من النفط يوميّاً، ولديها ما يعادل 5% من صادرات اليورانيوم في العالم، وتعدّ ثاني أكبر مصدّر إلى دول الاتحاد الأوروبي بعد كازاخستان، حيث صدّرت النيجر منه أكثر من 2975 طناً عام 2022. ومع ذلك، حوالي 28% من السكان عاطلون عن العمل، ويعاني أكثر من ثلاثة ملايين شخص من سوء التغذية، ويعيش 42.9% تحت خط الفقر. وبلغ نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي في النيجر 540 دولاراً في عام 2020، بحسب تقديرات البنك الدولي. ويتميّز الغابون بغاباته المطيرة الوفيرة وكثافته السكانية المنخفضة، وثروته البترولية الهائلة، وهو غنيٌّ بالمنغنيز، وينتج نحو مئتي ألف برميل من النفط يومياً. لكنّ 30% من السكان يعانون الفقر المدقع بحسب الصندوق الدولي للتنمية الزراعية التابع للأمم المتحدة. فيما يعيش نحو 40% من الشباب في عطالةٍ عن العمل وفق أرقام البنك الدولي لعام 2020. ودلّ ذلك على انخرام التوازن بين حجم الثروات الهائلة وواقع الناس الذين يعاني معظمهم ضنك العيش، وهو شأن جلّ البلدان الأفريقية. ويفسّر ذلك بانعدام الحوكمة، وانتشار الفساد المالي والإداري وانهماك أكثر الحكّام في تبديد الثروة الوطنية لتعزيز نفوذهم وتكديس مدّخراتهم في الخارج ومغازلة حلفائهم الأجانب.
عانت أفريقيا ويلات الاستعمار، والتهميش، والتفقير، والاستبداد، والتخلّف، والحروب الأهلية، عقوداً طويلة
اللافت أن الحراك الانقلابي المشهود في أفريقيا أخيراً بدا ميّالاً إلى انتهاج السلمية وتلافي أعمال العنف، وهي رسالة طمأنة موجّهة إلى الرأي العام المحلّي والدولي، للتأكيد على استتباب الأمن داخلياً وتفادي العزلة خارجياً. ولم يتمّ التنكيل بجلّ الرؤساء المطاحين، بل ناشد بعضهم القوى الدولية دعمهم، ولم يخاطبوا شعوبهم لنصرتهم وشدّ أزرهم، لمحدودية شعبيتهم في الداخل. في المقابل، بدا الضباط/ القادة الجدد يتمتعون بحاضنة شعبية واسعة، وانتظمت مظاهرات وازنة عبّر الناس خلالها عن التفافهم حول القيادة الجديدة ونفورهم من حكّامهم القدامى.
على الصعيد الخارجي، بعث الانقلابيون الجدد ثلاث رسائل واضحة. الأولى متعلّقة بإعلاء خطاب السيادة الوطنية في مستوى صناعة القرار وإدارة الثروة، وهو خطابٌ يروم وضع حدّ للهيمنة الغربية عموماً، والفرنسية خصوصاً، على مقدّرات المنطقة وإخراجها من فلك التبعية المطلقة لباريس. ويحمل هذا الخطاب طيّه نقضاً لمشروع أفريقيا الفرنكوفونية، واستياء من دعم القوى الغربية حكّاماً شموليين في المنطقة لقاء حماية مصالحها، غير ملتفتة إلى تطلّعات الأفارقة إلى التنمية الشاملة والحوكمة والرفاه. والرسالة الثانية عنوانها التضامن البيْني الأفريقي. وجلّى ذلك تضامن قادة غينيا ومالي وبوركينا فاسو مع المجلس العسكري في النيجر، ورفضهم أي تدخّل عسكري أجنبي في نيامي، معتبرين أنّ ذلك سيؤدّي إلى حربٍ كارثية مفتوحة في المنطقة. مفاد الرسالة الثالثة حتمية التأسيس لشراكة متوازنة بين بلدان المنطقة والقوى الغربية عموماً وفرنسا خصوصاً، فالأجيال الصاعدة في أفريقيا تطمح إلى أن تكون علاقة القارّة بأوروبا علاقة ربح متبادل، لا علاقة اختلال في الميزان التجاري وتبعية في القرار السياسي.
ختاماً، عانت أفريقيا ويلات الاستعمار، والتهميش، والتفقير، والاستبداد، والتخلّف، والحروب الأهلية، عقوداً. فهل سيؤدّي صعود الضباط الجدد إلى سدّة الحكم إلى تدشين مسار إصلاحي شامل، على نهج سوار الذهب في السودان وسانكارا توماس في بوركينا فاسو، أم الأمر خلاف ذلك؟