رسائل سلبية في طريق الحوار الوطني المصري
خمسة أشهر والحوار الوطني المقرّر عقده في مصر لم يتجاوز مرحلة الإعدادات الإدارية والتنظيمية، وسط تجاذبات كل من النظام والحركة المدنية الديمقراطية والرأي العام، بشأن طرق اختيار مجلس الأمناء، ثم اقتراحات اللجان الأساسية والفرعية، وأخيراً تسمية مقرّري اللجان، بعد إعلان رموز الحركة المدنية وأحزابها غضبهم الدائم من بطء وتيرة الإفراجات عن سجناء الرأي، التي لم تتجاوز عتبة مئات من المحبوسين احتياطياً بقراراتٍ من النيابة العامة، وبعض قرارات العفو المحدودة، التي لا تمسّ جوهر الأزمة. وكأن الانتهاء من اختيار المقرّرين يحتاج كل هذا الوقت، فضلاً عن المدد البينية الطويلة لانعقاد مجلس الأمناء، فيبدو وكأن ليس لدى ولاة الأمر عجلة لبدء الحوار ذاته!
إلى جانب ذلك، تظهر رسائل سلبية أخرى تضع علامات استفهام على مصير الحوار ذاته، وبعض هذه الرسائل تأتي من الإدارة، وبعضها الآخر يأتي بسبب القواعد التي وضعها مجلس أمناء الحوار الذي لم يتشكل وفقاً لخريطة حزبية أو سياسية، أو بالمناصفة كما اقترحت الحركة المدنية الديمقراطية. وبعضها يأتي بسبب استمرار المناخ المقيد للحريات، واستمرار الدولة في سياساتها الاقتصادية الراهنة باللجوء إلى الاقتراض وبيع الأصول المالية والتجارية والصناعية إلى جانب المباني التي تمثل جزءاً من تاريخ مصر، ويمتد القوس لطرح بعض الجزر النيلية للبيع لمستثمرين، حيث باتت مصر، بفعل هذه السياسات، على حافة الإفلاس، على غرار النموذجين، السريلانكي واللبناني .. وأهم هذه الرسائل:
أولاً، بعض أحاديث الرئيس عبد الفتاح السيسي العامة، التي تحمل انتقاداً لوجهات النظر الأخرى، ومنها حديث لوزير التضامن الاجتماعي السابق، جودة عبد الخالق، وهو بالمناسبة عضو في مجلس أمناء الحوار، عن معاناة أصحاب المعاشات (الرواتب التقاعدية)، وقبلها انتقاد مبطّن للنائب السابق ورئيس حزب الكرامة المستقيل، أحمد طنطاوي، المقيم حالياً خارج مصر، بسبب تحفظاته على طريقة إجراء الحوار وغيرهم. ويأتي المبرّر الرئاسي بأنّ كلّ من لديه وجهة نظر ناقدة لا يعرف معنى الدولة، التي يعرّف علم السياسة أركانها بـ"شعب وأرض وحكومة"، ولا يوجد ركنٌ كافٍ بمفرده لصنع السياسات وإقرارها، فلا النظام أو الحكومة يمكنهما الاستمرار في سياسات مرفوضة ومضرّة بالشعب، وألّا يكون بذلك فاقداً لشرعيته السياسية، وأهم ركن فيها هو الرضا الشعبي ومشاركة الأحزاب والمجتمع المدني في صنع القرار.
يحدُث الحوار في ظل إصرار رسمي على أن ليس هناك أي أخطاء في السياسات المتبعة، أو في تقييم نتائجها، أو بوجود إمكانات لمراجعة هذه السياسات وإحلالها بأخرى بديلة
ثانياً، يبدو الاستعداد للحوار كأنّه يجري في بلد آخر، فليس هناك ما يوحي بأن ثمّة تغييراً في منهج الإدارة والحكم لمصلحة مفهوم جماعية القرار، أو الاستعانة بالخبرات الأخرى، معارضة كانت أو مؤيدة، وتبنّي منهج مختلف، يسعى لإشراك المنظمات الشعبية والسياسية في صنع القرار والرقابة على تنفيذها.
ويحدُث الحوار في ظل إصرار رسمي على أن ليس هناك أي أخطاء في السياسات المتبعة، أو في تقييم نتائجها، أو بوجود إمكانات لمراجعة هذه السياسات وإحلالها بأخرى بديلة. والملفان العاجلان الذين يمكن أن يحققا مناخاً أفضل لهذا الحوار، ملف سجناء الرأي، وأزمة الحبس الاحتياطي وتهميش استقلال السلطة القضائية، بما فيها النيابة العامة التي تجمع بين سلطتي الاتهام والتحقيق وغياب ضمانات المحاكمة العادلة، بالإضافة إلى مراجعة الملف الاقتصادي.
ثالثاً، من جانب آخر، تبدو القواعد الإجرائية المنظمة لمجلس أمناء الحوار تحمل في طيّاتها تعمداً لإفشاله أو السيطرة عليه بإعطاء صلاحيات كبيرة للمنسّق العام بوضع جدول الأعمال وإنهاء الجلسة، والحق المنفرد بالإدلاء ببياناتٍ صحافية. وحق دعوة المجلس إلى الانعقاد من دون وجود مواعيد دورية له، بالإضافة إلى سرّية جلسات المجلس، وبالتالي لا يعرف أحد ماذا يجري فيها، وهو ما يتنافى مع أي قواعد ديمقراطية.
تغيب عن الحركة المدنية التصوّرات الخاصة بإشراك الشعب في مجريات الحوار
رابعاً، مواقف بعض رموز الحركة المدنية، وخصوصاً بعد هجوم الإعلام الرسمي على الحركة في أعقاب احتجاجها على تسمية مقرّري اللجان العامة، ومنهم بعض رموز نظام حسني مبارك، وعدم اختيار أسماء أخرى اقترحتها الحركة المدنية، وبعد ذلك تمت ترضية الحركة باختيار بعض مقرّري اللجان الفرعية من المنتمين إليها، وكما ظهرت مواقف أخرى من بعض أحزابها، توحي بالاستمرار في الحوار بأي شكل، وبغضّ النظر عن بيان 8 مايو (2022)، وبغضّ النظر عن مواقف الدولة، وهو ما يعني الانطلاق من خانة الهزيمة المسبقة وغياب أي بديل آخر، وهو منطق يقلل من مساحات الضغط والتفاوض من الحركة لإحراز مكاسب، بل إنّ رموزاً بدأت بإعطاء مبرّرات للنظام بالظروف الدولية الراهنة والطبيعة القمعية الطويلة لمؤسسات الدولة! وهذا يوحي لجانب من الرأي العام أن الحركة تسعى لمحاولة كسب بعض المواقع من دون تبنّي استراتيجية محدّدة.
أيضاً، تغيب عن الحركة المدنية التصوّرات الخاصة بإشراك الشعب في مجريات الحوار، من خلال ضم الفئات المتضررّة من هذه السياسات إلى صفوفه وتبنّي مطالبها، وهي إحدى نقاط ضعف الحركة المدنية التي يمكن أن تمثل الضمير السياسي الشعبي، كما كانت الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) والجمعية الوطنية للتغيير، وهو ما يعطي ثقلاً لهذه الحركة في مواجهة السياسات الحالية.
وتتناقض مجمل هذه الرسائل مع مفهوم الحوار، المفترض أنه يعقد بين مجموعاتٍ متباينةٍ في التصورات والمواقف والانحيازات السياسية، بما يؤدّي إلى الخروج بانطباع أن كل الجلسات المقبلة لن تصل إلى شيء واضح، وإن وصلت، لن تجد من يقبل بتغيير السياسات الحالية التي سبّبت هذه الأوضاع.
تبدو القواعد الإجرائية المنظمة لمجلس أمناء الحوار تحمل في طيّاتها تعمداً لإفشاله أو السيطرة عليه
وهو ما يعني أنّ جلسات الحوار الذي لم يبدأ بعد لا يتجاوز هدفه سوى مخاطبة للرأي العام الخارجي واستهلاك إعلامي موجّه إلى الداخل للإيحاء بأن شيئاً ما يحدُث على غير الحقيقة، خصوصاً في غياب إرادة سياسية لالتزام توصياته. ويمكن هذه الرسائل الخاطئة التي يأتي أغلبها من النظام إلى عدم حماسة أعضاء مجلس أمناء الحوار للاستمرار فيه، أو الاستمرار فيه باعتبارات الأمر الواقع. وفي الحالتين، سيكون هذا سلبياً، ويمكن أن يؤدي إلى فشل ذريع لمجرياته.
ولن يخرج الأمر عن عدة سيناريوهات: الأول أن يشعر النظام في لحظةٍ ما بأنه ليس في حاجة إلى هذا الحوار، وينقده ويحطّ منه، ويعطي التوجيهات باتهام الحركة المدنية وغيرها بأنّها ليس لها وزن، ولا تمثل الشعب لصالح أحزاب الموالاة. والثاني أن يستمر مسلسل الحوار أطول فترة ممكنة من دون تنفيذ أي التزامات تتقاطع مع فكرة الحوار، أو توحي بوجود تراجع في بعض السياسات الخاطئة واحترام مشاركة الآخرين في شؤون الدولة. والثالث أن يخرج، في النهاية، بتوصيات ضعيفة وجزئية، ولا تصل إلى اقتراحاتٍ تتناول تغيير النهج الحالي على المستويين، السياسي والاقتصادي.