رسائل مسيحية .. ومعارَضة سورية فاشلة
رسائلٌ إلى قادة أوروبا وأميركا، وقعتها أخيرا قرابة مائة شخصية، تنتمي أغلبيتها للطوائف المسيحية في العالم، ومن الموقعين بعض قادة الكنائس في سورية ولبنان، وتفيد بضرورة رفع العقوبات عن النظام السوري، بسبب كارثية أوضاع السوريين. وقد استندت تلك الرسائل إلى بيانٍ لخبيرة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، ألينا دوهان، بضرورة إيقاف تلك العقوبات. هي حجة ولا شيء أكثر، هذا أولاً. الموقف أعلاه يعبر عن نجاح وتكرار سردية النظام السوري ودعاته وشبكاته في العالم عما جرى ويجري في سورية، وهذا ثانياً. هي خسارة كبيرة للمعارضة بكل أشكالها وألوانها، ومنها المعارضة التي سمّت نفسها مسيحية، وهذا ثالثاً. رسائل الدفاع عن النظام السوري تعبر عن سقوطٍ أخلاقي مدوٍّ لكل من شارك فيها، وهي موقف سياسي ثابت إلى جانبه. خطورة رسائل كهذه أنها تأتي في لحظةٍ شديدة الحساسية، فهو، أي النظام، يعمل من أجل إعادة إنتاج ذاته عبر الانتخابات الرئاسية في الصيف المقبل، والتي تترافق مع وصول بايدن إلى الحكم في الولايات المتحدة، وتتالي عقوبات قانون قيصر، وخطورتها، واحتمال توسعها إلى كل داعمي النظام السوري في العالم، والتي وبسببها، وبسبب السنوات العشر المنصرمة، والفساد والنهب الذي لم يتوقف مطلقاً، فإن الأوضاع تزداد سوءاً وكارثية. وبالتالي هناك أزمة اجتماعية تعاني منها المناطق الخاضعة للنظام السوري، وتتطلب تغييراً في السياسة الأميركية والأوروبية إزاءها، ليتمكن من الخروج من أزمته تلك. إذاً، يعي النظام السوري وداعموه جيداً وضعيته المتأزمة، وخطورة حدوث احتجاجاتٍ في مناطق سيطرته.
يعي النظام السوري وداعموه جيداً وضعيته المتأزمة، وخطورة حدوث احتجاجاتٍ في مناطق سيطرته
لا يمكن نقاش مضمون الرسائل أعلاه، والتي تتجاهل دور النظام السوري في المأساة السورية، من دون توضيحٍ دقيق لواقع المعارضة، فهي الطرف الثاني في الصراع السوري. لقد تقلبت مواقف المعارضة كثيراً منذ العام 2011، وتغيرت أسماء مؤسساتها، وخضعت القوى المكرّسة فيها للدول الإقليمية والعالمية، حتى لا يُلحظ لها موقف وطني في أي قضيةٍ تتصدّى لها. هي حالة النظام كذلك، فوجوده واستمراريته منذ 2011 مرتبطان بإيران ومليشياتها، وبروسيا من بعد. يطلق مبادراته، ويتحرّك وفقاً لوضعيته المتأزمة والتابعة، وهناك معلومات تؤكد أن والد زوجة الرئيس، فواز الأخرس، هو خلف تلك الرسائل. المُشكلة في المعارضة، التي وبدلاً من أن ترفض أي مشاريع لا تساهم بنقل سورية إلى التحوّل الديمقراطي تتراجع تباعاً، وقد انحطّت مواقفها بشكلٍ كبير، مع موافقتها على خيار أستانة ومناطق خفض التصعيد، وتحوّل فصائل منها إلى قوى عسكرية تابعة لتركيا، والأسوأ التقارير الصحافية التي أكّدت إرسال تركيا بعضها إلى ليبيا وإلى أذربيجان، وهو ما فعلته روسيا بإرسال شبابٍ سوريٍّ إلى ليبيا (وفنزويلا؟). معارضة كهذه، كيف يمكنها أن تفضح سردية النظام وحلفائه وتعرّيها، وتتقدم عالمياً بمشروعٍ وطني للشعب السوري، وبالتالي تخفض من قيمة "اللوبي العالمي" الداعم للنظام.
من الخطأ الاستهانة برسائل كهذه، ولا سيما أن أميركا تتبنى سياسة الخطوة خطوة تجاه النظام السوري، وهو من يرفض المبادلة، وهذه لن تتغير مع بايدن، ولا سيما أن أقرب حلفاء النظام سيتم تخفيف العقوبات عنه، إيران، حيث تفيد تقارير بإيقاف سياسة "الضغط الأقصى"، وتبنّي سياسات جديدة إزاء حكومة طهران. وترفض روسيا تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، وبيان جنيف 1، والبدء بتشكيل هيئة كاملة الصلاحيات، وتناور عبر الاجتماعات المتكررة للجنة الدستورية، والتي استفادت منها كما النظام، حيث كانت "وظيفة" مشاركة المعارضة فيها إعطاء النظام المبرّرات الكافية للقول إنه لا يرفض المبادرات السياسية للحوار مع المعارضة، وبالتالي يصبح من الأخلاق بمكان رفع العقوبات عنه. تستفيد تلك الرسائل من ذلك الحوار، فكيف لو عرفنا أن أقساما في المعارضة ترفض العقوبات، وهي موجودة ضمن هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية، وبعضها تابع لتركيا التي هي إحدى الدول المُشرفة على مسار أستانة الذي أفضى إلى تشكيل اللجنة الدستورية، والتي تستند إلى التفسير الروسي للقرار 2254!
الموالون للنظام لم يكونوا يوماً فقط من الأقليات، وكان جزء من هذه الأقليات ضده
هل يفيد بشيء النقاش مجدّداً عن أن الكتلة الأكبر من المسيحيين وقادتهم في سورية والعالم خانوا الثورة السورية؟ هو جزء من اللوحة، والجزء الآخر أن الموالين للنظام لم يكونوا يوماً فقط من الأقليات، وكان جزء من هذه الأقليات ضده. اللوحة التي يعتد بها حالياً هي أن تتغير سياسات المعارضة والمعارضة ذاتها، وهذا يقتضي، أول الأمر، الانسحاب من كل أشكال التفاوض مع النظام قبل تطبيق 2254 كما أوضحته، وقبل الموافقة على هذا الشكل من التفاوض يجب إطلاق سراح المعتقلين. إنْ رفضت المعارضة الاستمرار في التفاوض كما يجري، فإن روسيا وتركيا ستجدان نفسيهما في واقعٍ معقد للغاية، وربما ستتمكن السياسة الأميركية والأوروبية من إعادة طرح مفاوضاتٍ أكثر جدوى مما يحدث حالياً، ووفقاً للقرارات الدولية.
بوضوحٍ أكبر، ما يعيق إعادة تعويم النظام ليست المعارضة ولا تركيا، بل الولايات المتحدة وأوروبا. وما يسمح لروسيا وإيران وتركيا بتجاهل حقوق الشعب السوري واتباع خيار أستانة هي موافقة المعارضة على خيارات أستانة وسوتشي، ولاحقاً اللجنة الدستورية.
وتبتغي روسيا من الخيارات أعلاه إعادة تعويم النظام، والآن وصلت إلى تهيئة الأجواء للانتخابات الرئاسية. الرئيس الأميركي بادين الذي انتقلت إليه السلطة، وهو على خلاف مع روسيا، لن يعيق تلك الخيارات، بل ستكون سياسته إزاء النظام السوري كما سلفيه، أوباما وترامب، أي تبديل سياسات هذا النظام وليس إسقاطه. التغيير الميداني الكبير لصالح النظام قد يسمح بتطبيق سياسة الخطوة خطوة الأميركية؛ فهل تعي المعارضة خطورة الحال الذي وصلت إليه؟
يتجاهل الموقعون على الرسائل، في مطالبتهم برفع العقوبات، السبب الذي أوصل الوضع السوري إلى ما هو فيه
السقوط المناقش أعلاه جزء من الواقع العالمي المنحط، وما يوقف ذلك كله سياسات جديدة يتبنّاها الشعب السوري. وهذا، كما يبدو، لن يتحقق قبل تغيير المعارضة التابعة وسياساتها، وتشكيل معارضة جديدة، وطنية بامتياز، والاستفادة من واقع الشعب السوري المنهار، وإعادة مدِّ الجسور مع كل السوريين، وبعيداً عن أي سياسات طائفية كما فعلت أقسام من المعارضة المكرّسة من 2011.
يتجاهل الموقعون على تلك الرسائل، في مطالبتهم برفع العقوبات، السبب الذي أوصل الوضع السوري إلى ما هو فيه، وتجاهل القرارات الدولية. لو طبقت هذه القرارات، وتحديدا 2254 وجنيف 1، لانتقل أطراف الصراع السوري إلى حوارٍ جادٍ من أجل الانتقال الديمقراطي، وهذا غير ممكن من دون تشكيل هيئة كاملة الصلاحيات، فهل يفهما، المعارضة والنظام، خطورة المصادرة الإقليمية والعالمية للإرادة السورية وواقع الاستنقاع السوري وتفاهة تمرير الوقت عبر اللجنة الدستورية والرسائل أعلاه والانتخابات الرئاسية المقبلة وسواها كثير.