رغم تقادم الجراح
في ندوة نظّمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في عمّان بعنوان "الهوية والثقافة والفنون، حديث في الطعام واللباس والأغاني"، تحدّث الباحث والكاتب صقر أبو فخر، وسط حضور ثقافي نخبوي. استهلّ حديثه بالإشارة إلى أنّه لن يتطرّق إلى السياسة، وسوف يلتزم بعنوان الندوة. ومن البديهي أنّه لم يقصد بذلك أنّ يُقلّل من أهمية الشأن السياسي، وهو الفلسطيني الأصل المسكون بكلّ مُنجزه الفكري الجاد والرصين بهاجس الانتصار لقضايا أمّته، وبالتوق إلى تحقيق العدالة والحرّية للشعب الفلسطيني.
أخذنا أبو فخر في رحلة شائقة عبر مُفردات الهُويّة الفلسطينية، التي يحاول العدو الصهيوني طمسها بكلّ الطرائق، فتناول أغاني من التراث الفلسطيني، هي جزء من تراث بلاد الشام، وركّز على خصوصيتها في ظلّ ظروف الاحتلال، وساق، على سبيل الأمثلة أغنيتي "يا ظريف الطول"، و"وين عَ رام الله"، وغيرهما من الأغاني الشائعة، مُوضّحاً أنّها كانت في الأصل أغاني عاطفية عن قصص حُبّ عاديّة بين شباب وصبايا يُردّدها القرويون في أعراسهم، ويعقدون حلقات الدبكة على أنغامها، ثم تحوّلت أغاني مقاومة وتمسّكٍ بالهُويّة، وتأكيد على حُبّ الوطن والحنين إليه، والانتماء إلى ترابه والتضحية بالغالي والنفيس من أجل حرّيته وعزّته واستقلاله.
تطرّق المُحاضر، أيضاً، إلى أنواع المأكولات في المطبخ الفلسطيني العريق شديد التنوّع، مثل المُسخّن المُعدّ بزيت الزيتون وخبز الطابون والبصل والدجاج، والشاكريّة، التي أصبح اسمُها في بعض المناطق "لبن أمّه" نكاية بالعدوّ الذي يُحرّم مُعتقدُه تناول اللحم مع اللبن، والقدرة الخليليّة بالحمّص والأرز والثوم ولحم الخروف، والمقلوبة التي يُتقنها أهل القدس، وتحرص نساؤها (القدس) على تقديمها للمرابطين في باحة المسجد الأقصى في تحدّ مُعلن للصهاينة، وغيرها من الأطباق البسيطة الشهيّة، التي تعتمد على خيرات الأرض من بقلة وخبيّزة وفرفحينة ومُلوخية وبامية. وحذّر أبو فخر من محاولة الصهاينة السطو على هذا الإرث ونسبته إلى أنفسهم، فيزعمون إنّهم مبتكرو طبق الحمّص، والفلافل، ويسوّقونهما إلى العالم مُنتَجات إسرائيلية.
ولم يغفل أبو فخر الحديث عن خصوصية الأزياء الفلسطينية، وفنّ التطريز الذي تشتهر به فلسطين، إذ تتنوّع تصاميمه وتختلف قُطباته من قرية إلى أخرى، لتُشكّل في مجموعها لوحة فسيفسائية من الألوان الزاهية، التي تسرد حكاية الأجداد أصحاب الأرض. وأشار إلى المُشتركات في اللباس بين بلاد الشام مع اختلاف المُسمّيات لفكرة واحدة، فغطاء رأس الرجل تتعدّد مُسمّياته بين الشماغ، والقضاضة، والحطّة، والسلك، والكوفية التي أصبحت رمزاً كونياً لمقاومة أشكال الظلم والعدوان كافّة. كُنت أتمنّى على الزميل العزيز أن يحفر أعمق في مفردات التراث، مكوّنات أساسيّة لملامح الهوية الفلسطينية المُستهدفة، الكفيلة بنسف مزاعم العدو بالأحقية في الأرض. ربّما لم يتسع المجال في زمن الندوة المُحدّد للمزيد، غير أنّ عنوان الندوة كان في غاية الأهمية، لأنّه يسعى إلى التثقيف والتذكير والتنبيه بأهمّية تسليط الضوء على الجوانب، الفنّية والثقافية والاجتماعية، للمجتمع الفلسطيني المُتنوّع والمُتعدّد، والمنسجم عرقيّاً وطائفيّاً ومذهبيّاً واجتماعيّاً، وصولاً إلى يقين بحقّه المشروع في العيش بكرامة في أرضه، التي بذل من أجلها الدماء والأرواح سنين طوالاً. وقد وجد بعض الحضور في مداخلاتهم أنّ الحديث في هذه التفاصيل الهامشية، بحسب تعبيرهم، نوع من الترف، في ظلّ شلّال الدم النازف في غزّة بلا توقف، رغم أنّ تفاصيل كهذه تُعدّ شكلاً ضروريّاً للنضال والمُقاومة.
تحيّة إلى صقر أبو فخر، ولحضوره الإنساني الجميل، والمجد لفلسطين وأهلها الصامدين رغم تقادم الجراح.