رواية "كلب الأسيرة"
ليس من روايةٍ بالاسم المذكور، وإنما هي الدعوة إلى أن تنكتَب (ثم تُنشر وتُقرأ) أجازت افتراضَها في العنوان أعلاه. ولمّا كان إنتاج الرواية، بوصفها جنسا أدبيّا، يقع في منطقة التخييل، فإنّه ما من روايةٍ (مع تحرّزٍ طفيفٍ من الإطلاقيّة) إلا وأفادت من واقعةٍ أو تجربةٍ أو سيرةٍ ذاتية. ومشهد الأسيرة الإسرائيلية ميا ليمبرغ (17 عاما) تخرُج مساء الثلاثاء الماضي من سيّارة، ومعها كلبُها (اسمُه بيلا)، ثم تمشي أمتارا، برفقة مقاتلين من كتائب عزّ الدين القسام وسرايا القدس، إلى شابّةٍ وزميلها في "الصليب الأحمر" لتأخذ مقعَدها (برفقة الكلب) في سيارة للهيئة الدولية، أظنّه هذا المشهد يضجّ بما يستنفر قريحة الروائي ليكتب استيحاءً منه، فقد اشتمل على زوبعةٍ من المفارقات والأسئلة، وأرطالٍ من الدهشة (والإعجاب، لمن أراد). فكيف تأتّى الحفاظ على هذا الكلب (الصغير) 50 يوما، في ظروفٍ بالغة الصعوبة، في أجواء قتالٍ وحربٍ شرسة؟ وكيف "احتمل" المقاومون المجاهدون وجودَه "أسيرا" برفقة أسيرةٍ (ووالدتها)، بعد أن سيقوا، مع غيرهم، من مستوطنة نير إسحق، في "غلاف غزّة"، فجر ذلك السبت الفريد؟ وكيف "تعامل" الآسرون مع الكلب طوال تلك الأيام، مع ما يستجرّه نباحُه من مخاطر أمنيّة؟ وكيف "أمّنوا" طعامَه الخاص، وأمورَه الحيوانية إياها، عدا عن حاجته للحركة؟ ولمّا الشبابُ القسّاميون متديّنون، هل تنازلوا عن ذلك الاعتقاد بنجاسة الكلاب، أم احتاطوا من هذا الأمر، في كيْفٍ لا نعرِفه؟ هل استأنسوا بالذي أوردَه الجاحظ والدميري والقزويني والقاضي التنوخي، وغيرُهم من علماء وفقهاء وأهل أدب، في الموروث العربي القديم، عن شمائل وطبائع حسنة في الكلاب؟ هل تذكّروا بيت الأعرابي في مدحه الخليفة العباسي المتوكّل: أنت كالكلب في حفاظك للودّ/ وكالتيْس في قرع الخطوب"، فخطر لهم أن حُسن معاملتهم مع صاحبة الكلب يلزم أن تُماثلَه المعاملة مع الكلب المُستضاف؟ هل طالعوا، مثلا، كتاب ابن المزربان (عاش في أواخر القرن الثالث الهجري وأوائل الرابع) "تفضيل الكلاب على كثيرٍ ممن لبس الثياب" (نُشر محقّقا في بيروت في 1992)، ودار في أفهامهم إننا في زمنٍ تلْقى فيه بشرا، حاكمين ومحكومين، يجوزُ تفضيلُ الكلاب عليهم؟... أسئلةٌ تتناسلُ من أسئلة، يرتجّ بها كلّ عقل، عند مشاهدة تلك الشابّة الإسرائيلية، مغتبطةً بكلبها، يخرُجان ناجيين، ولا تبدو عليها علائم حنق أو غيْظٍ، تغادر أيام احتجاز، من المؤكّد أنها لم تكن هيّنةً على النفس والروح والبدن.
ولكن، كيف ستكون رواية "كلب الأسيرة"؟ ما هي حدود المساحات المتجاورة المتقاطعة، للحيّز الذي سيُحرِزه المتخيّل فيها، وللحيّز الذي سيأخذُه الحقيقيّ الواقعي؟ وقد قيل وانكتب إن الواقعَ يحدُث أن يتفوّق على الخيال، والحوادث غير قليلة تدلّ على صحّة هذا الكلام، من قبيل خطوات ميا ليمبرغ وكلبُها في حضنِها من سيارة للمقاومة الفلسطينية الإسلامية إلى سيّارة للصليب الأحمر، بعد الأسر ستة أسابيع في أنفاق (أو غير أنفاق؟). للروائي حرّية اختياره المبنى والأسلوب والمعمار لنصّه. له، مثلا، أن يجعلَ الكلب (الإسرائيلي) هو الراوي، المتكلم، عن يوميّاته في الاحتجاز. فعلَ يوسف الخال هذا في مقطوعته النثرية "يوميّات كلب" (1987)، لمّا جعل الكلب يقول، بالمحكيّة اللبنانية، ما أراد أن يقولَه الخال بنفسه، في غير مسألةٍ فلسفية. له أن يُجري محاورةً بين الكلب وصاحبته، أو بثّاً منها إليه، كما فعل عبد الرحمن منيف في "حين تركنا الجسر" (1976)، لمّا كان الكلبُ يُنصت لصاحبه الصيّاد الذي استرسل على سجيّته عن نفسِه، وعن خيْباته، وعن "جحيم تعيشُ فيه روحُه" وظلّ الكلب وردان يتحرّك ويدور ويعوي، وانتهت الرواية بأن قتَلَ الكلب نفسه. للروائي أن يفعل كما بول أوستر في "تمبكتو" (ترجمها محمد عبد النبي، دار المتوسّط، 2018)، عندما جعل الكلب لا يغادر صاحبَه عندما يموت، ويلحّ على رفقته، وبدت العلاقةُ بينهما بالغة الشجى، وهما يرتحلان معا. للروائي أن يفعلَ، لو أراد، استعاداتٍ وتقاطعاتٍ زمانيةٍ ومكانية، ليس بالضرورة كالتي أقامها أحمد الفخراني في "إخضاع الكلب" (2022)، وإنما بأن تكون الصلة، كما في هذه الرواية، بين البطل وكلبِه كاشفةً لأعطابه وجوّانيّاته. له أن يكون كما عقل العويط، أمينا في منحىً فردانيٍّ ظاهرٍ في روايته القصيرة "السيد كوبر وتابعه" (2023)، فكلبٌ كبيرٌ يقيم عند عقل، (شاهدتُه في سهريةٍ بديعةٍ في منزل الصديق الشاعر في بيروت)، والنصّ يتجاوَز الصلة بينهما إلى ما هو أبعد.
لكاتب "كلب الأسيرة" أن يكتُبها كما يشاء، فالمشهدُ الذي رأينا شديد الفرادة والاستثنائية.