روستو والتحديث السياسي في الأردن
يعدّ دنكوارت روستو أحد أبرز الدارسين الذين انشغلوا بمسألة التحوّل الديمقراطي ونظرياته. وقد أحسن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في ترجمة مقالته المفتاحية والمرجعية "حالات الانتقال الديمقراطي.. نحو نموذج ديناميكي، 1970" في كتابٍ يتضمن أهم المقالات والدراسات التي قدمت مقارباتٍ في مجال التحوّل أو الانتقال أو التحديث الديمقراطي "مقالات مرجعية في دراسات الانتقال الديمقراطي" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023).
يناقش روستو في مقالته أصحاب مدرسة التحديث السياسي، بخاصة سيمور ليبست، الذين وضعوا متطلبات اقتصادية - اجتماعية لأي عملية تحوّل ديمقراطي، ووضع آخرون متطلبات نفسية - ثقافية، تتعلق بالقيم والأفكار ومدى انتشارها بين الجمهور. وهكذا، بينما يرى روستو أنّ هنالك شرطاً واحداً يمثل خلفية ضرورية Back Ground Condition لأي عملية انتقال ديمقراطية، ويتمثل بالهوية أو الوحدة الوطنية، ويوضّح أكثر ذلك ".. إنها تعني، ببساطة، أنّ الغالبية العظمى من المواطنين في ديمقراطية قيد التشكل يجب ألا تكون لديهم أي شكوك أو تحفّظات على الجماعة السياسية التي ينتمون إليها،..، الديمقراطية نظام للحكم عبر أغلبية مؤقتة، ومن أجل تغيير السياسات والحكام بحرية، يجب أن تدوم الحدود، وتكون تركيبة جماعة المواطنين مستقرّة، وقد صاغ إيفور جينينغز ذلك بعبارة مقتضبة: لا يمكن أن يقرر الشعب، حتى يقرّر أحدٌ من هم الشعب".
يستدرك روستو بأنّه ليس المقصود هنا أن لا شأن للوحدة الوطنية المقصودة بشيء غامض مثل الدم والتراب، أو التعهّد اليومي بالولاء أو الهوية الشخصية بالمعنى الذي يقصده المحلل النفسي أو هدف سياسي كبير يتّبعه المواطنون إجمالاً. ويرى أنّه يجب أن ينظر بحذر إلى أي إجماع لفظي عن الوحدة الوطنية، "فمعظم الخطابات القومية البليغة انبثقت من شفاه الناس الذين انتابهم إحساس أضعف بالأمان في شعورهم بالهوية الوطنية/ القومية...".
ما علاقة ذلك بالتحديث السياسي في الأردن؟.. بعيداً عن المجاملات والكلام المنمّق والعواطف الجماعية، هنالك تساؤلات جوهرية بشأن مفهوم الجماعة السياسية في الأردن، لا نقول إنّها غير موجودة، لكنها تعرّضت في التجربة التاريخية لاختبارات كبيرة، وهنالك أسئلة مهمّة اليوم حول: مفهوم المواطنة وعلاقته بالهوية السياسية، وعلاقة الدولة بالمجتمع والقواعد الاجتماعية، وهو أمر ارتبط بالتشابك والتعقيد في العلاقة الأردنية - الفلسطينية، ومراحل الفك والربطين الجغرافي والبشري، وهو ما جعل لدينا مفهوماً مركّباً للمواطنة، بخاصة عندما يتعلّق الأمر بحقّ العودة للاجئين الفلسطينيين وبالهويات المختلفة، حتى أنّ أحد الروّاد المعاصرين البارزين في النظرية الديمقراطية، عالم الاجتماع دانيال ليرنر، وصف الأردن (في الخمسينيات) بأنّها دولة واحدة لشعبين.
إذاً، أحد التحديات الرئيسية أمام التحديث السياسي في الأردن مفهوم الوحدة الوطنية - الجماعة الوطنية، علاقة الدولة بالمجتمع والأفراد، بخاصة مع المشروع الراهن للانتقال السياسي المرتبط بمخرجات لجنة تحديث المنظومة السياسية وقوانينها، وقد جرى تحصين قوانين الأحزاب والانتخاب عبر اشتراط ثلثي مجلس النواب لتغييرها، وإذا تجاوزنا انتخابات الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول)، فوفقاً لقانون الانتخاب فإنّ الانتخابات التالية لها (2028) من المفترض أن تكون نسبة القائمة الوطنية الحزبية 50%، وهي النسبة التي ستُؤخذ من حصّة المحافظات، ثم ستكون نسبة القائمة الوطنية الحزبية 60% في العام 2032، ما يعني أنّ النسبة الكبرى ستؤخذ من المحافظات التي بنيت علاقتها مع الدولة على صيغة عُرفية من تبادل المنافع والمصالح والتوقّعات، ما يعني أنّ قانون الانتخاب الجديد والمعادلة المستقبلية تقتضي تغييراً بنيوياً في نمط العلاقة والتوقعات، وهو ما يدفع إلى التساؤل: إلى أي مدىً فعلاً ستتقبل فئات اجتماعية واسعة شكلت تقليدياً قاعدة للاستقرار والسلم المجتمعي المعادلة الجديدة؟ وهكذا الحال بالنسبة لمؤسّسات رسمية عديدة ترى أن مهمتها الرئيسية التأكّد من الاستقرار والأمن الداخلي!
في الخلاصة، ليست مثل هذه الخطوات بسيطة في الحالة الأردنية، إنما تقتضي أن تكون هنالك بالفعل "هندسة سياسية"، لا على صعيد نجاح فلان أو علّان، أو هذا الحزب أو ذلك، بل تقرير الصيغة والمعادلة المناسبة لعلاقة الدولة بالمجتمع وبالفرد في المستقبل؟ هل فعلاً ما تضمنته وأقرّته "قوانين التحديث السياسي" عليه إجماع في أوساط القرار ومؤسسات الدولة أم لا؟