روسّو حكماً بين مرسي والسيسي
"قد يظهر من الأحوال ألف (مسألة) لم يعالجها المشرّع قط، فمن الفطنة اللازمة جداً أن يُشعَر بأنّه (البرلمان التأسيسي) لا يمكن أن يفطن إلى كلّ شيء". يقول جان جاك روسّو.
يُحذّر روسّو من أنّ صلابة القانون قد تأتي بنتائج عكسية، وبالتالي لا بدّ من مرونتها، لكنّه يُعبّر بعد ذلك عما يمكن تسميته "الانقلاب الدستوري"، أو إسقاط النظام من داخل هيكليته الذاتية، ونستطيع أن نستشرف حصول هذه الأوضاع في انقلابات كثيرة حول العالم، وخاصة استدلال الفريق المُنقلِب بأنّهُ جاء عبر قانون دستوري نافذ، وغالباً يكون نموذجاً أسوأ من واقع الدولة في حينه. ويرى روسّو أنّ ما يسميه مسّ سلطان القانون المُقدّس أمرٌ خطير، لكنه يُبرَّر فقط، عندما يحيق الخطر بسلامة الوطن، وهو المُبرّر الذي عاشته مصر، من ناحية التفويض لصالح الرئيس أو الانقلاب عليه، وهنا ينصّ روسّو على تفويض الأجدر، ما يعني أنّهُ تفويض قد يُنحّي الرئيس ويأتي ببديله، هذا البديل قد يكون بديلاً مزعوماً للإصلاح فيما هو قوّة انقلابية سيئة، أو يُعلّق الرئيس الدستور لمنع الانقلاب، فهنا، يضع روسّو أساساً لهذا التشريع، ويُبرّره بأنّ هدف الإرادة العامة ألا تَهلك الدولة. وبالطبع، مقصد روسّو ليس انقلاب المسيء، ولكن من يضبط التقدير في حينه. كما أنّه يُدْرِج نموذج الحكومة المصغّرة، لعضوين أو ثلاثة، ويحصر الصلاحيات في أيديهم، مَخرجاً أقلّ خطراً من الانقلاب الدستوري، ويستدل بإحالة مجلس الشيوخ الروماني الحُكم في النظام الجمهوري، حين فوّض المجلس أمر الدولة إلى الحكم القنصلي، وكانت روما حينها تحكم بقنصلين (رؤساء للسلطة التنفيذية)، من دون الرجوع إليه.
يرى روسّو مسّ سلطان القانون المُقدّس أمراً خطيراً، لكنه يُبرَّر فقط، عندما يحيق الخطر بسلامة الوطن
ويُبرّر روسّو عدم الخوف من التحوّل إلى الحكم المطلق في التجربة الرومانية، بأنّ هذا المرتكز الأخلاقي (الخوف من انقلاب المستبدّ) لم يكن حاضراً، بسبب أن طبيعة الحكم حينها كانت عبئاً مطلقاً، وبالتالي، فإنّ أطراف التكليف يسارعون إلى إلقاء الحمل عن كاهلهم، لكن أين هذا من واقع اليوم في انقلابات الدول الدستورية (تونس قيس سعيّد نموذجاً)؟ فالبعد الأخلاقي هنا حاضر بقوّة يشكّك في نيات المُكلّفين المزعومين لإنقاذ الوطن. ورغم أنّ هذا التلاعب وارد، بما فيه أمثلة من روما القديمة، أي نوايا الحكم المفوّض المُعطّل للقوة التشريعية، فإنّ روسّو يُصّر عليه، مستدلّاً بنماذج مؤامرات نجحت كان من الممكن أن تُحبط، لو قُدّر لها تفويض السلطة (الصالحة) حينها، وهذا قد ينطبق على نماذج معاصرة أيضاً، حين يفوّض الرئيس نفسه من مجلس الشعب لوقف الانقلاب.
رغم أن روسّو يعود إلى التشديد على ضبط فترة الاستثناء التفويضي، وألا يكون الحكم قد أخلّ بمصداقيته، وبشرعية قراراته، ومنها تعليق الدستور. في نهاية الأمر، تُفيد خلاصات التأمّل عبر منظور علم الاجتماع السياسي، في عالم اليوم، بأنّ مدخل التفويض نحو الحكم المطلق لا يُمكن النظر فيه إلا من خلال تعطّل قدرات الدولة، ووسائط مدافعتها فعلياً، وأنّ ذلك يحدّده دوماً دقّة بصيرة تحتاج لفهم نوازع طلب التفويض الشخصية للحاكم ونخبته، والظروف الواقعية للدولة في مُستجدّات الأزمة التي تشتعل فيها وحولها.
قضية التفويض يتعارض فيها الحراك القانوني السياسي السريع التفاعل لوقف المؤامرة، كما يسمّيها روسّو
بعد عرض دقيق لأصول التعاقد الاجتماعي وفلسفته، التي حرّرها روسّو في القرن الثامن عشر، ومركز رؤيته، دوماً، هو الحفاظ على حقّ الإرادة الشعبية، وسلطتها الرقابية، فضلاً عن انحياز روسّو دوماً للطبقات المسحوقة، لنراجع هذه التحريرات في النموذج المصري، قبل إطاحة وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي الرئيس المنتخب محمّد مرسي، واتضح هدفها باعترافات رسمية عديدة أنّ 30 يونيو (2013) كانت تحت تمويل ودعم خارجي، معادٍ لإرادة الشعب العامة في ثورة يناير (2011). فما المساحة التي كان يمكن للرئيس مرسي أن يتّخذها قبل الوصول إلى أرضية "30 يونيو"، ووفقاً لمعطيات روسّو، هنا، في العقد الاجتماعي، هناك إشكالية كبرى قبل ذلك سيطرحها سؤال مشروع؛ ما قدرات الإخوان المسلمين وحلفائهم، حينها، للحصول على تفويض استثنائي؟ وهو ما يستبطن سؤالاً قبله، وهو حجم قدرة "الإخوان" في الأصل على تحقيق ذلك التوازن عبر مُرشّحهم الخاص، في مقابل مُرشّح وطني توافقي قد تتاح له الفرصة لكي يعبر بمستوى جيد يضمن للثورة ألا تصل إلى المستوى الذي وصلت إليه مصر من الانهيار والمذابح الحقوقية، التي راح فيها عشرات بين قتيل وسجين، أو من السقوط الاقتصادي التاريخي، بين أرقام مرحلتي الرئيسين مرسي والسيسي؟
ومن فقدان القدرات التوازنية الاستراتيجية في عهد الرئيس المعزول حسني مبارك في العلاقات الخارجية، وهيبة شخصية الدولة في مصر، وبين المشهد الحالي للدولة، فضلاً عن الموقف التاريخي للرئيس مرسي مع غزّة في دورة عدوان صغيرة، قبل المذبحة الكبرى اليوم، فلو تجاوزنا ذلك كلّه، بما فيه قدرات "الإخوان" وتقديراتهم، فإنّ قضية التفويض يتعارض فيها الحراك القانوني السياسي السريع التفاعل لوقف المؤامرة، كما يسمّيها روسّو، مع إشكالية أنّ الرئيس مرسي يعود لمكتب الإرشاد، وهو ما لا يسمح له بحسم إصدار قوانين كبرى وقوّية، تُفعّل حقّه في التفويض. ولو تجاوزنا هذه النقطة المُهمّة، فإنّ تقدير روسّو ينحاز إلى مرسي بحسب المشهد، وروسّو بالمناسبة لا يضع أي نسبة مراعاة للمشاعر النرجسية التي ضخ بها شارع 30 يونيو خطابه، قبل اتضاح أنّها مُجرّد مسرح هلامي، يستبق العاصفة الكارثية، فهل كان للرئيس مرسي، رحمه الله، مساحة قبل 30 يونيو ليباشر مسؤولية الحكم القومي لمصر من دون خيرت الشاطر، أو مكتب الإرشاد، ثمّ ينسّق مع قياداتٍ من الجيش، ليباغت بها القيادات المتورّطة في المؤامرة؟ أمّ أنّ ذلك كلّه خارج نطاق التجربة، لخلل ذاتي فيها؟