رونالدو وبوغبا بين الرياضة والأخلاق
تزامن بدء بطولة أمم أوروبا لكرة القدم مع حدثين بسيطين، لم يكن لأي أحد أن يعيرهما أي اهتمام، لولا أن من قام بهما من القامات الرياضية الكبرى والمشاهير، المهاجم البرتغالي المتألق كريستيانو رونالدو، نجم منتخب بلاده وصاحب الكرة الذهبية عدة سنوات، ثم بطل كأس العالم في كرة القدم ووسط الميدان الفرنسي، بول بوغبا. كلا الرياضيين الكبيرين أزاحا مشروبين من أمامهما خلال ندوتيهما الصحافية. أزاح الأول قنينتين لمشروب كوكا كولا الغازي، رافعا يده قائلا إنه يفضل شرب الماء الطبيعي. وأزاح الثاني قنينة جعة (بيرة) من على طاولته، بعد أن لاحظ وجودها، وأخفاها تحت مقعده، من دون أن يقول أي شيء، فالفعل أبلغ من القول.
علاوة على المواقع الإخبارية والصحف العالمية التي خصّصت حيزا مهما لما وقع، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي للتعليق على الحدثين، وتداعياتهما على الشركتين، وهما من الداعمين الرسميين للبطولة، خصوصا أن خطوة رونالدو تبعها انخفاض في الساعات التالية في بورصة نيويورك بنسبة 1.6%، وتكبّدت شركة كوكا كولا حوالي أربعة مليارات دولار، جرّاء انخفاض أسهمها، حيث انخفض سعر السهم من 56.18 دولارا إلى 55.24 دولارا، ما أدى إلى نزول رأس مالها من 242 مليار دولار إلى 238 مليارا.
تكبّدت شركة كوكا كولا حوالي أربعة مليارات دولار، جرّاء انخفاض أسهمها
وإذا كان من الصعب الربط المباشر بين السبب والأثر، بين الواقعة والانخفاض الذي لا يعتبر استثنائيا، فقد سبق وانخفض السهم نفسه بين 4 و9 يونيو/ حزيران الحالي، على سبيل المثال، بحوالي دولار واحد للسهم، إلا أن للواقعة أهميتها الإعلامية، وللنازلة أثر متوقع على مبيعات الشركة، فهو إشهار مضادٌّ ضد هذا المشروب والمشروبات الغازية على العموم، ودعاية سيئة كانت الشركة في غنىً عنها، فمن الصعب جبْر الصورة التي تكسر، خصوصا عندما تكون بمثل هذه العفوية والتلقائية.
وإذا كانت إزاحة رونالدو المشروب الغازي تعود إلى انضباطه الغذائي المعلوم، حيث دعا غير مرة إلى عدم استهلاك المواد السكرية أو الدهنية، وصرّح بأنه، أحيانا، يكون قاسيا مع أطفاله، حين يراهم يشربون المشروبات الغازية، أو يأكلون رقائق البطاطس المقلية، فإن دافع بول بوغبا إلى إزاحة قنينة الجعة، ولو أنها من دون كحول، ديني محض، فالدعاية للشركة الهولندية المعروفة بتوزيعها الخمور والجعة لا يليق أن يصدر من مسلم ملتزم بدينه، كما حال بول بوغبا، ومن ثمّة جاء تصرّفه كذلك بتلقائية وعفوية ظاهرة. وهو تربّى في ضاحية باريس الشرقية، والده مسيحي وأمه مسلمة، أصلهما من غانا. دخل الإسلام سنة 2019، حيث صرح آنذاك لصحيفة التايمز البريطانية "الإسلام كل شيء بالنسبة لي. جعلني ممتنا لكل ما حدث في حياتي، وجعلني مطمئنا، ما أحدث تغييرا جيدا في حياتي، لأنني لم أولد مسلما، على الرغم من أن أمي كانت مسلمة. الإسلام ليس الصورة التي يراها الجميع وما نسمعه في وسائل الإعلام عن الإرهاب. إنه حقا شيء آخر، شيء جد جميل". ما أجمل ما قال وما صرح به، ووددنا أن ينتفض أمثاله من النجوم العرب والمسلمين للدفاع عن قضاياهم كذلك، في وقت أصبحت القضايا العربية والإسلامية محل تهجّم وهجوم يومي في وسائل الإعلام الغربية.
مع تصدّر وسائل التواصل الاجتماعي، تحولت ساحة مفتوحة للتعبير عن الرأي العام العالمي
منذ بزوغ الثورة الرقمية التي نعيشها منذ سنوات، ومع تصدّر وسائل التواصل الاجتماعي، تحولت ساحة مفتوحة للتعبير عن الرأي العام العالمي، وأصبحت ميدانا للتنافس التجاري بين كبريات الشركات في رؤية تواصلية شاملة كاملة على كل المستويات، أو ما تسمى تقنية التواصل 360 درجة. وغدا للمؤثرين دور فعال كبير في الدعاية التجارية، وفي الخطاب الإعلامي الموجه، بما لديهم من تأثيرٍ على سلوكيات متابعيهم والمعجبين بهم. ويكفي أن نذكر أن عدد معجبي رونالدو على "إنستغرام" زهاء 300 مليون شخص، وبوغبا حوالي 45 مليون شخص، لنعرف مدى التأثير الذي يمكن أن يقوم به شخصان فقط من خلال واقعة قد تظهر بسيطة في شكلها، لكنها عميقة في رسالتها الأخلاقية والتربوية.
لا يُطلب من كل المشاهير أن يكونوا قدوة في الأخلاق والسلوك، وأغلبهم شديد البعد عنها. ولكن عندما يقوم أحدهم بدور ما في أي مجال، يحسن التنويه بمجهوده مهما كان بسيطا، لما له من تأثير كبير وأثر عظيم. وهنا وعلى سبيل المثال، يُذكر إلغاء نجم الكرة الفرنسي، غريزمان، شراكته مع شركة هواوي الصينية، دعما لشعب الإيغور المسلم. كما يجدر الحديث عن الدعم الذي أعرب عنه مشاهير وشخصيات دولية عديدة للفلسطينيين عند العدوان الصهيوني أخيرا على قطاع غزة، ما أحدث تحوّلا ملاحظا في التوجه العام للرأي العام الغربي لصالح القضية الفلسطينية.
هي، إذن، بادرات بسيطة حسنة، ولفتات طيبة نبيلة، لا تستلزم تخصيص وقت كبير، ولا تتطلب دفع الملايين، ولا تكلف صاحبها الكثير، لكنها، ونظرا إلى ما يعطى لها من اعتبار واهتمام من وسائل الإعلام والمتابعين والمعجبين، تعطي قيمةً مضافةً للقضية، وتجعلها محط الأنظار، وهذا قد يكفي.