"ريش" .. الفيلم والصدمة
أولا، يجب الاعتذار للشركات الأربع من بلدانٍ أربعة (بينها مصر) التي اشتركت في إنتاج الفيلم المصري "ريش"، لأنك شاهدتَه وقد "تسرّب" إليك، كما إلى غيرك، ما يُحسب انتهاكا منك حقوق الملكية الفكرية، وفي الأخبار أن الفيلم سيتم عرضه قريبا في الصالات العمومية. أما ثانيا، ربما يجوز شيءٌ من الشكر للذين تسبّبوا بالزوبعة التي شاعت بشأن الفيلم، لمّا خرجوا من قاعة عرضه في مهرجان الجونة السينمائي الأسبوع الماضي، ثم رموه بالكلام الفارغ إياه عن تشويهه صورة مصر وسمعتها، فلولا ما أشاعه هؤلاء عنه، وفي مقدّمتهم الممثل شريف منير، لم يكن ليُحرز الاهتمام الشاسع به، والفضول العريض لمشاهدته، سيما وأن في الذي ذاع عن مضمونه ما يستثير هذه الرغبة، من قبيل أن رجلا فيه يتحوّل إلى دجاجة (أو فرخة بالعامية المصرية). على أنه لا معنى لشكرٍ كهذا طبعا، بالنظر إلى ما فعله الذين شنّعوا على "ريش"، وإنْ أفادوه إفادة كبرى من حيث لم يقصدوا، من تأليبٍ على صنّاعه، وهو العمل السينمائي الروائي الأول لمخرجه عمر الزهيري، سيما وأن هجمتهم توبعت بدعوى قضائيةٍ رفعها شخصٌ غير ظريف ضد الفيلم، وبغضبةٍ واسعةٍ في برامج تلفزيونية، يسيء الجهل والتهريج فيها إلى الإعلام المصري. ثالثا، الفيلم صعبٌ ومختلفٌ وغريبٌ وجديدٌ ومُربك، وهذه إن كانت مدائح يستحقّها، من المهم أن يُقال معها إنه فيلمٌ يحتاج استقبالا خاصا، وذائقةً نوعية، وربما أيضا أعصابا من جنسٍ ما، ليُحتمل ما قد لا يُحتمل فيه من شناعة بؤسٍ شديدٍ اعتنى الفيلم بتصويره، في تتابع مشاهدِه التي يؤالف بينها الحسّ الغرائبي الكابوسي القاسي، من غير اكتراثٍ من المخرج (وهو كاتب السيناريو أيضا) بأن تكون مقنعةً، فذلك ما لا يحفل به "ريش" أبدا، فهو إنما يراهن، أساسا، على صدمةٍ يريد إحداثَها لدى المُشاهد الذي سيستغرب أنه لم يسبق له أن صادف أحدا في الفيلم في أيٍّ من أفلام سينما شاهدها، فهم من الناس وحسب. كما أن بطلته، دميانة نصار، كما كل من فيه، لا أسماء لشخصياتهم في الفيلم الذي أراد "إمتاع" نظّارته بمشاهد القذارة والأوساخ والتلوث المتوالية فيه.
الصدمة التي يفعلها "ريش" يريدها في الجميع، مع التسليم بأنه فيلمٌ نخبوي في مطرحٍ ما، وقد لا يُحرز نجاحا تجاريا وجماهيرية واسعة. إنه يصدم ذائقةً مكرّسة ومتوطّنة في تقاليد مشاهدة السينما العربية. جاءت أفلامٌ مصريةٌ عديدةٌ على الفقر والبؤس، وكان كثيرٌ منها بديعا، غير أن مقصد "ريش" ليس أن يؤشّر إليهما، إذ يُغالبهما مصريون في عيشهم، بل أن يختبر قدرة كاميرا السينما في التعبير عن انسحاق الإنسان وعجزه وشيئيته، بمقادير من العبثية والسوريالية، وبروحيةٍ فنيةٍ مهجوسةٍ بالتجريب أكثر من التفاتها إلى السؤال عمّا إذا كان ما على الشاشة واقعا أو متخيّلا، فلك أن تقول إن ثمّة مبالغاتٍ في غير مشهد، ولك أن تسأل عمّا جعل الرجل الدجاجة يظهر متأخرا رجلاً من لحم ودم، ولكن مُجرّحا مدمّى وفي بشاعةٍ مهولة، بعد العثور عليه في مركز شرطة. ولك أن تسأل عن الإيحاء في النهاية الفالتة للفيلم، المفتوحة على لا شيء، بعد ذبح الدجاجة، وعدم حسم حال الزوج العائد الذي حاولت الزوجة الصموتة طوال الفيلم (تظنها أحيانا خرساء) أن تستنطقه عبثا. لك أن تسأل عن مدلولاتٍ أو مرسلاتٍ قد تكون في هذا المشهد وذاك، من قبيل التناقض التقليدي بين الفقر المدقع جدا والثراء الفاحش في منزلٍ واسعٍ مترفٍ تعمل فيه الزوجة خادمةً قبل طردها منه لمّا أخذت منه شيئا من اللحم والحلوى (كأن شيئا من فيلم محمد خان "أحلام هند وكاميليا" هنا؟)، لكن كل هذه الأسئلة وغيرها لا يبدو "ريش" معنيا بتيسير إجاباتٍ عليها. ببساطةٍ، لأنه فيلم لا يقصد سوى أن يصدمك بالعبث واللامعقول في بعض الوقائع قدّامك، وأن ترى تعبيراتٍ في وقائع أخرى عن انعدام آدمية الإنسان في بيئاتٍ متلوّثة، ليس فقط بسموم وأغبرةٍ وقد ضجّ بها الفيلم، وإنما أيضا بنقصان شروط العيش الطبيعي، عندما تتدنّى القيم والأخلاق، بالتوازي مع التدنّي المزري في عموم الحياة، وفيها كلّ ما يحطّم الروح والبدن والنفس، ومع البحث الصعب عن لحظة فرح عابرة، أو لحظة حبّ غائبة.
"ريش" فيلم ساخر وقاسٍ ومدهشٌ وعاديٌّ وعجيبٌ وضعيفُ وقويٌّ وشائق ومملّ وواقعيٌّ وعجائبيٌّ وعبثيٌّ وكوميديٌّ ومحزنٌ وكئيبٌ ومُفرح. إن كان قد توسّل من ساحرٍ أن يفشل في إعادة رجل صيّره دجاجةً إلى رجولته فإنه أيضا توسّل أسلوبا في التصوير والإخراج والتعبير صادما، نجحَ في التنبيه إلى موهبةٍ جديدةٍ مبتكرة، في سينما عربية مختلفة، اسمُها عمر الزهيري.