08 أكتوبر 2024
زوبعة رشيد بوجدرة
تكتمل في يونيو/حزيران الجاري خمسون عاماً على إصدار الجزائري، رشيد بوجدرة، أول إصداراته الأدبية، وكان ديوان شعر، وهو الذي راحت إبداعاته، أيضاً، إلى المسرح والسيناريو واليوميات، وإنْ بقيت الرواية منتوجه الأهم، منذ عمله الأول، بالفرنسية، (التطليق، 1969)، والذي وصف بأنه مفصليٌّ في المدوّنة الروائية الجزائرية، مرورا بـ (التفكك، 1982) التي انتقل فيها إلى الكتابة بالعربية، قبل أن يعود إلى الفرنسية، وفي الغضون، كانت روايته (الحلزون العنيد، 1977) حدثاً خاصاً. وطوال هذه السنوات، راكم فيها نحو ثلاثين عملاً، ثارت زوابع غير قليلة بشأنه، كاتباً ومثقفاً، وبشأن أعماله وآرائه في غير شأن، ومنها مناهضته التقليديّة في المجتمع الجزائري، ومناوأته التابوهات الجنسية والسياسية والتطرف الديني، وهو الذي طالما بدا مزهواً بوصفٍ شاع عنه أنه "الشيوعي الأخير" في الجزائر، وفي البال أنه ممن وضعت الجماعات المتشددة المسلحة في بلاده اسمه مرشحا للقتل، في العشرية السوداء، وآثر، في الأثناء، البقاء في الجزائر، وإنْ متخفياً في الغالب، ومزنراً بمسدس على ما قرأنا. وكان، غداة الانقلاب في 1965، قد غادر الجزائر، ومنع من العودة إليها، حتى 1975.
مناسبتان لهذه الإطلالة، هنا، على رشيد بوجدرة، تكريمه في ملتقى عن السينما والرواية، ضمن فعاليات مهرجان وهران للفيلم العربي، الأسبوع الماضي، وبحضور عربي. والزوبعة التي تابعناها، نحن حضور الملتقى والتكريم والمهرجان، بعد أن فلتت على لسانه، في برنامج تلفزيوني، كلمات بدا فيها غير مؤمن بالله، وظهر فيها خارجاً عن أصول الإسلام وعقيدته، ما استفزّ الجزائريين، وأشعل غضباً واسعاً منه، تم التعبير عنه في دعوات حادة تطالب بمعاقبته. وعلى مسامعنا، في أثناء التكريم، أنكر بوجدرة إلحاده، وأكّد إسلامه، بل "وتصوّفه" أيضاً، وأبلغنا، أمام الصحافة، أنّ ما قاله في تلك المقابلة التلفزيونية، كان "دعابة ثقيلة" على استفزازٍ من المذيعة محاورته، وأشار إلى أنه حفظ القرآن الكريم مرتين، وأنه من عائلة متدينة، وأن الحضارة الإسلامية حضرت في رواياتٍ له، وأنه، في الأساس، لا يمكن أن يسيء إلى الإسلام وعقيدة الشعب الجزائري.
لا تنشغل هذه السطور بمحاكمة الروائي الكبير على ما قاله وما لم يقله، وما بدر منه وما تراجع عنه، لكنها ترى أن الأوْلى من بوجدرة كان أن يتحرّز في كلامه في هذا الشأن، ولا سيما وأنه يطل على ملايين النظارة، وقد بدا على الشاشة على شيء من الاستعراضية الانفعالية، وإنْ سألته المذيعة في برنامجها (اسمه المحاكمة) ما إذا كان مؤمناً بالله أم لا، وكان الأجدى أن يردّ بغير ما ظهر منه، فلا يُضطّر، لاحقاً، إلى النفي والتوضيح والحديث عن "زلة لسان" و"دعابة ثقيلة". وكان متوقعاً أن تتدحرج القصة إلى تداعياتٍ غير محسوبة، من قبيل دعوة أحد مشايخ جمعية العلماء المسلمين إلى عدم دفن بوجدرة في مقابر المسلمين، ونسب التصريح إلى رئيس الجمعية، قبل أن ينفي ذلك، فلوّح صاحب "فوضى الأشياء" (1990) برفع دعوى قضائية، ثم تراجع عن تلويحته هذه.
كان الأنفع أن يطل الكاتب المتمرد، على قرائه، الجزائريين والعرب وفي العالم (ترجمت نصوص له إلى 30 لغة)، وفي مناسبة احتفائية به وبيوبيله الذهبي، يستحقها، بغير هذه الزوبعة البائسة، والتي كان رشيد بوجدرة في غنى عنها. تماماً كما أن كتاباً عربا آخرين، من طراز صاحبنا، لا يجوز منهم أن يستهينوا بمشاعر الناس، باستسهال الكلام كيفما اتفق عن الدين والإيمان والله والنبي محمد. ولا غلوّ في الزعم، هنا، أن بوجدرة أخطأ كثيراً، ثم أحسن في تدارك ما بدر منه، والمنتظر منه أن يواصل شغبه الإبداعي، و"عناده" وخوضه في المسكوت عنه، ومناورته بين الفرنسية والعربية، بعيداً عن سقطاتٍ مثل تلك الإطلالة التلفزيونية. .. هناك، في عصريةٍ وهرانية، فرحنا به في تكريمه، في لحظةٍ حارّة بالحب والتقدير لإبداعه، وحضوره الثقافي الممتد خمسين عاماً، أطال الله عمره.