زيلنسكي الذي انفتح باب القدر عليه وعلى شعبه
المقارنات لا تتوقف بين الرئيس الأوكراني، فلودومير زيلنسكي، وغيره من القادة "التاريخيين". ربما رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، هو أول من أجراها، فقال إنه يشبه قائد الحرب البريطانية ضد النازية في الحرب العالمية الثانية، ونستون تشرشل. تلاه الفرنسيون الذين نبشوا من تراثهم كلاً من شارل ديغول والكوميدي كولوش. فحكوا كيف أن كولوش أوكرانيا، أي زيلنسكي، أصبح ديغولها. أغرب المقارنات كانت بينه وبين ترامب. الخلفية التلفزيونية، الحضور الإعلامي الدائم..
والحال أن المقارنات الثلاث لا تصحّ. صحيحٌ أن ثمّة ما يجمع بين ترامب وزيلنسكي، وهو حضورهما الإعلامي الدؤوب. ولكن كل ما بقي، يفرّقهما. بدءاً من الدور، وانتهاءً بالشخصية الفردية لكل منهما. أما تشرشل وديغول، فبالعكس. خلفية الأول أرستقراطية، وتجربة برلمانية عريقة. والثاني، ديغول، رجل عسكري، خرّيج كلية سان سير. ونقطة اللقاء الوحيدة بينهما وبين زيلنسكي، خوضهما حرب تحرير بلادهما.
لم يخطر ببال الإعلام الغربي، المأخوذ بجاذبية هذه المقارنات، استحضار شخصيات تاريخية أخرى أقل اختلافاً مع الواقع الخاضع للمقارنة. لم يحضر في ذهنه جمال عبد الناصر مثلاً أو بن بيلا، وللاثنين خلفية عسكرية، ولكنهما خاضا حرباً، هي الأقرب إلى الحرب الأوكرانية من الحرب ضد النازية. مع أن الاجتياح الروسي يضع نصب عينيه أوروبا، يهدّدها ويضعفها جيوسياسياً، لكن حرب الأوكرانيين حتى الآن حرب تحرّر وطني من استعمار روسي، يتلطّى خلف "الهيمنة الإمبريالية الأميركية". والأرجح أن غياب قادة الاستقلال العالمثالثيين في ذاكرة المقارِنين هو أيضاً تمحور حول الذات وتاريخها. فلو قيل لهم إنّ عبد الناصر أو بن بيلا أشبه بزيلسنكي، لاضطروا إلى أن يعودوا إلى الحفر في تاريخهم الاستعماري القريب. وهذه نقطة ضعف أساسية في التجنيد الإعلامي الغربي ضد غزوة بوتين: أنه لا يستثير غير تاريخه، وينسى تاريخ العالم الثالث، الذي يؤيد بوتين بغالبيته، فقط نكاية بالاستعمارَين السابقَين، الفرنسي والبريطاني، وبالإمبريالية الأميركية.
من دون تجربةٍ سياسيةٍ، ولا برنامج واضح، صار زيلينسكي رئيساً
زيلنسكي شاب عمره 44 سنة. خرّيج كلية حقوق، يهودي، من أقلية الأقليات. إذ تبلغ نسبة اليهود الأوكرانيين 0,2%. أي إنهم أقل من المسلمين الذين يبلغون 1,1%. وقبل أن يُنتخب رئيساً للجمهورية بأكثرية ساحقة في انتخابات ديموقراطية، كان قد غيَّر مهنته من محامٍ إلى كوميدي ونجم تلفزيوني لعب دور الرئيس المنتخَب في أحد مسلسلاته الأشهر، وأسّس شركة إنتاج تلفزيوني لاقت رواجاً. إذاً، من دون تجربةٍ سياسيةٍ، ولا برنامج واضح، صار رئيساً.
عشية الاجتياح الروسي لأوكرانيا، حصل ما لا ينبئ أبداً بما سيأتي. الصحافة الأوكرانية سرّبت أخباراً عن صلةٍ قويةٍ تربط زيلنسكي بالأوليغاركي المعروف هناك، أيهور كولومويسكي. لكن الذي أشعلَ هذه الصحافة بسجالٍ لم يوقفه إلا الضربة الروسية، ما كشفته أوراق "بارادايز" عن أموالٍ كان يخبئها زيلسنكي في الجزر "الحرّة". فبحسب الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية، كان لشركته "كرافتال 95" التي أسّسها عام 2012، شبكة "أوفشور" ساعدته على امتلاك شقق وبيوت فخمة في لندن، ثم بقية أخبار عن "نشاطات" ألِفْناها لسياسيينا النجباء في مدرسة "باندورا" و"باراديز". الرأي العام الأوكراني كان صداه مباشراً. سحب تأييده الرئيس، بعدما فشل في محاربة الفساد، كما وعد، بل انكشف تورّطه به، حتى قبل انتخابه. هكذا، عشية الضربة الروسية، كانت شعبية زيلنسكي قد هبطت، وبلغت أدناها.
زيلسنكي، بفضل حرية الإعلامَين، الغربي والأوكراني، لم يظهر ملاكاً طاهراً كامل الأوصاف، ولا قائداً مغواراً
إذاً، زيلسنكي، بفضل حرية الإعلامين، الغربي والأوكراني، لم يظهر ملاكاً طاهراً كامل الأوصاف، ولا قائداً مغواراً، ولا خرّيج فنية عسكرية، ولا مفكراً، أو مناضلاً، أو "رئيساً مؤمناً"، أو سجيناً سابقاً، أو قائد جيش، أو برلمانياً صبوراً تدرّج من البلدية إلى النيابة فإلى الوزارة، لينتهي رئيساً، ولا ابن "الأكثرية" الدينية، والأرثوذكسية هي الغالبة (65%)، ولا هو القائد المثالي الماكيافيلي، الذي يجمع بين الأسد والثعلب، ولا تشي غيفارا، المناضل الذي خاض حرب عصاباتٍ في بوليفيا ضد الإمبريالية الأميركية.
ولا هو وريث عرش أو جمهورية. لا هو بشار الأسد، مع أنّ الاثنين تعرّضت بلادهما لهجوم روسي مسلّح شرس، واحد حسب رغبته وتوسّل الإيرانيين لإنقاذه، والثاني ضد إرادته وإرادة شعبه. ولا هو قائد عسكري، أو قائد مليشياوي، يزرع شبّيحته الرعب باسم مقاومتهم لعدوّ ما. ولا هو الأخ التوأم لبوتين، كما تذهب بروباغندا غير معروفة المصدر، وبرهانها تَشارُك بوتين وزيلنسكي بالاسم الأول (وربما "تعديل" اسم الثاني، فلوديمير، بدل الأول، فلاديمير، ردّ على هذا التشبيه).
حسناً، إنه نمط جديد من القادة، لا شرّ مطلق ولا خير مطلق. إعلام وكاريزما، وتجربة صفر في ميدان القتال، وبروفايل لا يساعد على توقّع ما سيحصل لاحقاً، من تحوّل هذا الزعيم الجديد إلى زعيم من النوع النادر الذي لا يمكن تصنيفه في أية خانة من الخانات. ما الذي حصل لكي يتحول زيلنسكي هذا إلى رجل يضاعف من فرادته، فتظهر له طبائع جديدة، مفاجئة، لم يتوقعها له أحبّ محبِّيه؟
حصل أن الهجوم الروسي فتح أبواب القدر على زيلنسكي وعلى شعبه. وقوف الأوكرانيين، في غالبيتهم العظمى، بوجه هذا الاجتياح. من دون انتظار خطط ولا اتصالات، فقط بإرادة شعبٍ تبلورت هويته الوطنية في لحظة عدوان، فقرّر أنه "أوكراني"، يتعرّض لمقتلة هي "الأشد مضاضة"، على يد ذي القربى الروسي، يجمعه به التاريخ والدين والأبجدية. كان يجدُر بهم، كأبناء تنوّع ديني ولغوي، أن ينقسموا، مثلاً، بين أكثرية أرثوذكسية متمسّكة بالكنسية الأم، الروسية، المذعنة لبوتين، وترحّب بـ"الأخ الأكبر"، أو بين من ينطقون بالروسية ومن ينطقون بالأوكرانية، أو بين أهل مدن وبلدات وقرى .. فحصل العكس. مثل رجل واحد وقف الأوكرانيون، بقيادة رجل من الأقلية. وكأن وثبتين تلتقيان في نهر هادر.
شاب لا يخلو من العيوب، وربما من الرذائل، يلتقي مع شعبه في لحظة قدرٍ مع توق الحرية، فيكون بطلاً وطنياً، يتناتشه التسويق السياسي، أينما حلّ
أيهما سبق الآخر؟ وَثبة الأوكرانيين أم وَثبة رئيسهم؟ مثل كل المعجزات، ولا جواب على سؤالها غير القدر، رفعت الحرب الروسية على أوكرانيا رجلاً، ما كان مفترضاً أن "يقبضه" رجال العالم، لكثرة "عاديّته"، وخفّة الوسط الآتي منه، لكثرة مداخلته المرئية، والانفضاح السريع لفساده، بفضل صحافة حرّة، كانت المساهِمة الأولى بصعوده إلى الرئاسة. هذا هو فلوديمير زيلنسكي الجديد: شاب لا يخلو من العيوب، وربما من الرذائل، يلتقي مع شعبه في لحظة قدرٍ مع توق الحرية، فيكون بطلاً وطنياً، يتناتشه التسويق السياسي، أينما حلّ.
هل انتهى التاريخ عند هذا الحدّ بتكرّمه على قائد وطني، ينصهر مع شعبه في لحظةٍ روحيةٍ واحدة؟ الحرب ما زالت في بدايتها، وقد تتطلب هدنة، أو اتفاقاً أو تسوية، أو حتى ربما صفقة. وزيلنسكي ما زال يعاتب الغرب على عدم مساعدته بما فيه الكفاية لصدّ بوتين عن بلاده، فعشرون بالمئة من أوكرانيا صار محتلاً من الجيش الروسي ومليشياته، من حوض الدونباس الشرقي. والخسائر العسكرية جسيمة بين العسكرَين، والدمار والتهجير في أوكرانيا خُرافيَان. والغرب نفسه دخل مرحلة ما بعد الصدمة، وهو الآن يلهث تعَباً. والصين تثبت قدمَيها أكثر فأكثر، إذ يضعف منافساها في هذه الحرب، روسيا وأميركا.
إذاً هدنة .. أية هدنة؟ أي اتفاق؟ أية تسوية؟ وأية ضغوط من أجلها؟ هل ينفصل زيلسنكي عن شعبه، ويغلق أبواب القدر، فتنتهي الرواية، ويتحوّل إلى بطل لحظة من لحظات مقاومة أوكرانيا لجيش بوتين؟ أم تعود الوثبتان تلتقيان، ويكون زيلنسكي ساعتها بطل الفصول كلها؟