ساسة الغرب ونزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين
لطالما أغرقنا المسؤولون الغربيون بالتصريحات المنحازة لصالح إسرائيل في صراعها مع الفلسطينيين لأسباب كثيرة، أقلّ ما فيها الجهل بتفاصيل الصراع، حيث يلمّ كثيرون منهم بخبايا الأمور وتفاصيلها الدقيقة، فإسرائيل هي، في نهاية المطاف، مشروع غربي استعماري ولد ونشأ وترعرع وما زال محميا بتصميم وتنفيذ غربيين على الأرض الفلسطينية. ولكن الجديد في تصريحات المسؤولين الغربيين في الحرب على غزّة أنهم تفوّقوا على أنفسهم هذه المرّة ليس فقط بالانحياز لطرفٍ على حساب الطرف الآخر، من خلال "أنسنة" آلة الحرب الهمجية الإسرائيلية، و"نزع الصفة الإنسانية" عن الضحية، الفلسطينيين، وبوعي كامل هذه المرّة، كما في جميع المرّات السابقة.
يظهر "نزع الإنسانية" الغربي عن الفلسطينيين أول ما يظهر بتسمية الحرب أنها حرب إسرائيل - حماس، وهذا مجافٍ للحقيقة، حيث إن معظم الفصائل الفلسطينية تشارك في الحرب بقدراتها المختلفة. والأخطر أن المعني المتضرّر الأكبر من الحرب هم المدنيون الفلسطينيون، أي أن إسرائيل تمارس القتل على نطاق واسع على الشعب كله، وليس "حماس" فقط، بدليل أن الغالبية العظمى من الضحايا من الأطفال والنساء وكبار السن، فالتسمية الغربية للحرب تهمّش الجزء الأعظم منهم، وهم الشعب الفلسطيني. عملياً، تنفي مثل هذه التصريحات القسم الأكبر من الفلسطينيين من الوجود، وتنزع عنهم صفة البشر، وأنهم طرف في الصراع. لم يقع بروفيسور العلاقات الدولية الشهير في جامعة هارفاد ستيفن والت في هذا الفخّ، فعنون مقالته في مجلة فورين بوليسي "أميركا هي السبب الجذري للحرب الحالية في إسرائيل وفلسطين".
صياغة الحرب على أنها ضد "حماس"، وشيطنة الفلسطيني على أنه إرهابي، تشرّع للإسرائيلي ارتكاب ما شاء من المجازر وهو ما حدث
ويظهر نزع الصفة الإنسانية في تصريحات المسؤولين الغربيين في توقيت الحرب، إذ دأبت التصريحات دوماً على ذكر "السابع من أكتوبر/ تشرين الأول" على أنه نقطة البداية، وأن "حماس" هي التي "بدأت" هذه الحرب. ينمّ هذا التوقيت عن أن الحرب بدأت من فراغ، وبدون أي إطار تاريخي لها أو تسلسل للأحداث، حيث من المعلوم أن الشعب الفلسطيني يرزح تحت الاحتلال منذ أكثر من 75 عاماً، وتم تقسيمه في المساحة التي تقع بين نهر الأردن والبحر المتوسط إلى أربع مجموعات (ضفّة وغزّة وقدس و48)، ناهيك عن النصف الثاني من الشعب الفلسطيني الذي تم تهجيره عامي 1948 و1967. وتخضع هذه المجموعات الأربع للهيمنة الإسرائيلية المباشرة، وتعاني كل مجموعة منها من سياسات تمييز عنصري على أساس الدين والعرق، لتشكل الأنظمة الأربعة نظام أبارتهايد عنصري تفوّق على النظام البائد في جنوب أفريقيا. ناهيك عن أن غزّة نفسها تعاني من حصار شديد منذ عام 2007، حوّلها فعلياً الى معسكر الاعتقال الأكبر في العالم. ولكن التاريخ لدى الساسة الغربيين يبدأ من الوقت الذي يُقتل فيه إسرائيليون، 7 أكتوبر. ويمثل ربط بداية الحرب بهذا اليوم إنكارا لمعاناة الشعب الفلسطيني منذ 75 عاماً وغضّ الطرف عن الحرب بأشكالها المختلفة التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين من سرقة أراضٍ وهدم بيوت ونفي وتهجير لم تتوقف يوماً واحداً. صياغة الحرب على أنها ضد "حماس"، وشيطنة الفلسطيني على أنه إرهابي، تشرّع للإسرائيلي ارتكاب ما شاء من المجازر وهو ما حدث. وفي اللحظة التي تجرّأ فيها الأمين العام للأمم المتحدة المتحدة أنطونيو غوتيريس بالقول إن "الحرب لم تأت من فراغ"، مشيراً إلى معاناة الفلسطينيين عقودا، قامت الدنيا عليه من صنّاع القرار الغربيين، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، الذي قال إنه لا يتفق مع غوتيريس في ما قال، وإن "هناك طرفا واحدا مسؤولا عما حدث وهو حماس".
تسلب تصريحات المسؤولين الغربيين أبسط الحقوق من الفلسطينيين بوصفهم بشرا بحقّهم بالدفاع عن أنفسهم وكرامتهم
لا شيء ينزع الإنسانية عن الفلسطينيين، مثل مقولة "لإسرائيل حقّ الدفاع عن نفسها" التي يكاد لا يخلو صانع قرار غربي واحد لم يُسارع إلى التفوّه بها كصكّ براءة من إنسانية الفلسطينيين وإعلان الولاء العميق لإسرائيل. لم يقدّم سياسي غربي واحد للتفكير، ولو ملياً للقول، أو التلميح إن الفلسطينيين أيضاً بشر و"لهم الحقّ بالدفاع عن أنفسهم". تسلب تصريحات المسؤولين الغربيين أبسط الحقوق من الفلسطينيين بوصفهم بشرا بحقّهم بالدفاع عن أنفسهم وكرامتهم وأبنائهم وزراعتهم وأرضهم الذين يتعرّضون للاضطهاد الإسرائيلي منذ عقود. ويتم منح هذا الامتياز لـ"البشر الإسرائيليين" للحفاظ على حياتهم البشرية، لا بل أخذ بعض الساسة الغربيين بالمزايدة على زملائهم بتأكيد "إنسانية الإسرائيليين" من دون الفلسطينيين بالقول إنه ليس لإسرائيل فقط الحقّ بالدفاع عن نفسها، لا "بل يجب" أن تدافع عن نفسها في وجه "الإرهاب الفلسطيني" طبعاً.
من غير الواضح أن الساسة الغربيين يدركون حجم الغضب والإحباط الذي يتعرّض له الفلسطينيون، عندما يسمعون قيادة "العالم الديمقراطي الليبرالي" المنادي بالحرّيات وحقوق الإنسان وهم يمنحون أبسط حقوق الإنسان "الدفاع عن النفس" لطرف، ويتنكّرون له على الطرف الآخر. هذا ناهيك عن العويل الغربي الذي لم يتوقّف على ضحايا الحرب في أوكرانيا وحقّ كييف في الحرية ومقاومة الاحتلال والدفاع عن النفس ضد "الاحتلال الروسي"، بينما يمنحون "حقّ الدفاع عن النفس" للمحتلّ الإسرائيلي في فلسطين، علماً أن عدد الأطفال الفلسطينيين الذين قتلوا في الشهر الأول من الحرب يفوق عدد أطفال الحرب في أوكرانيا الذين قتلوا على مدار عامين... ويُذكَر أن الفلسطينيين هم الشعب الوحيد تحت الاحتلال المطالَب غربياً بتوفير الحماية والأمن لمحتليه، وليس العكس.
ساسة الغرب ليسوا فقط متواطئين في جرائم الحرب التي تُرتكب في غزّة، بل شركاء فيها من خلال نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين
لم يتوقّف النحيب الغربي على 230 أسيرا إسرائيليا بيد حركتي حماس والجهاد الإسلامي منذ اليوم الأول للحرب، فذهب بعضهم للمطالبة بالإفراج عنهم فوراً ومن دون قيد أو شرط، واعتبار حجزهم جريمة حرب، ومنهم من ربط الحرب برمّتها بموضوع هؤلاء. وفي خضم مئات من مثل هذه التصريحات، لم ينبس أي من ساسة الغرب ببنت شفة ليقول إن للفلسطينيين أيضاً معتقلين لدى السلطات الإسرائيلية، يفوق عددهم ستة آلاف، ومنهم من أمضى عشرات السنين في المعتقلات، ومنهم من لم يقدّم لمحكمة، وعدد منهم من الأطفال الذين لم يتجاوزا السن القانونية. مرّة أخرى، ينكر ساسة الغرب على المعتقلين الفلسطينيين حقّا إنسانيا بسيطا يتمثل بالحرية، فهم يرون 230 شخصا ولا يرون الآلاف. لا بل إن بعض الساسة الغربيين، مثل رئيس وزراء كندا جاستن ترودو، الذي يقدّم نفسه منارة لحقوق الإنسان واللاجئين في العالم، يربط "هدنة إنسانية" في غزّة ليس بتوقف القتل اليومي للفلسطينيين الذين وصل عدد ضحاياهم إلى أكثر من 11 ألفا، وإنما "للسماح بالإفراج عن جميع الرهائن".
لقد أصبح ساسة الغرب بارعين في نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين، من دون الاعتبار لحقوقهم الإنسانية بوصفهم بشرا، فتاريخ الصراع يبدأ من 7 أكتوبر، والسجناء هم الإسرائيليون فقط، والأطفال الذين يموتون في الحرب هم الأطفال الإسرائيليون فقط. وبهذا هم ليسوا فقط متواطئين في جرائم الحرب التي تُرتكب في غزّة، بل شركاء فيها من خلال نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين تسييراً لقتلهم وإنكارا لوجودهم.