سجال الهوية الجامعة وتحدّيها في الأردن
أيقظ ورود توصية في وثيقة مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، تدعو إلى تعظيم الهوية الوطنية الجامعة على الهويات الفرعية، مخاوف متخيّلة لدى بعض الأردنيين، مفادها بأن المقصود بمفردة "الجامعة" تحويل الأردن وطنا بديلا لجميع من هم على أرضه، وأن ذلك هو الغاية الأساسية من اللجنة. وقال آخرون إن هذا أمرٌ لا يُطرح إلا في الأردن، وأنه متمسك بهويته الفرعية ضد مقولة الهوية الجامعة.
وللأسف، قاد الوهم المتخيل عند بعضهم إلى تأويلاتٍ في غير مكانها، وتكشف عن حساسية غير مبرّرة وتناول غير علمي للمصطلحات، وعدم وعي بمسار تشكّل المجتمع وتحولاته، أسفر عن مواقف رافضة أي جهد سياسي إصلاحي، يمكنه أن يطوّر العملية الديمقراطية. وتداعى كثيرون إلى زجّ جملة اتهامات للجنة الملكية ورفض لمخرجاتها، وهذه مواقف معروفة ومفهومة، وليست جديدة من أصواتٍ تشكّك في كل إنجاز أردني. صحيحٌ أن هناك إشكالية مسألة الهوية الأردنية الراهنة، مثل غيرها من الهويات في المنطقة، وهي من إشكالات ما بعد الحداثة، أي أنها تشكّلت في زمن ما بعد الاستعمار الحديث، وعمليًا لم تأخذ صيرورتها الكاملة بعد، فما تزال هناك تباينات وأسئلة. وبطبيعة الحال، تعرّضت هذه الهوية إلى تحوّلات عديدة خلال فترة تشكّلها في زمن الحداثة، واستمرّت في حقبة ما بعدها، منها وصول المهاجرين الشركس والشيشان أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين، ثمّ وصول الليبيين بعد الاحتلال الإيطالي عام 1913.
بيد أن أوسع التحوّلات تلك التي أعقبت النكبة الفلسطينية عام 1948، ولاحقاً النكسة عام 1967، عندما استقبل الأردن بشكل مفاجئ مجموعة كبيرة من الفلسطينيين الذين هاجروا إلى منطقة شرق الأردن، وأسهموا في بناء الأردن، وكانوا جزءاً من دولة الوحدة الأردنية الفلسطينية. وتوالت الهجرات، عام 1990 بعودة فلسطينيي الكويت، وصولاً إلى اللجوء السوري عام 2011 وتداعياته. وبالتالي، شهد الأردن حالة تكوين اجتماعي متحوّلة باستمرار، والفترة الأهم هي ما قبل 1948، حيث كانت الهوية الأردنية قد احتضنت مجموعاتٍ من الشركس والشيشان والأرمن وعائلاتٍ من بلاد الشام، ولا يزال هذا التنوع حاضرا، على سبيل المثال في التقسيم الانتخابي وفي قوانين الانتخاب.
كان الأردن دوماً جاهزًا لاستقبال مجموعات جديدة، أو سكان جدد يسهمون في تغيير كثير من الأحوال الاجتماعية والثقافية فيه
يؤكّد التطور العام للهجرات إلى الأردن أنها أسهمت، بشكل كبير، في تنوّع الاستقرار وتغيير بنية المجتمع، بالإضافة إلى تحوّلاتٍ لاحقةٍ في نمط الإنتاج والثقافة، إذ تشكّلت قصبات لديها علاقات تبادلية تجارية متداخلة شمالًا مع المدن السورية، وغربًا مع مدن فلسطين. وعمومًا، كان الأردن دوماً جاهزًا لاستقبال مجموعات جديدة، أو سكان جدد يسهمون في تغيير كثير من الأحوال الاجتماعية والثقافية فيه. وقد أسهم هذا النسيج المتعدّد في التكوين الاجتماعي الأردني، ما جعله متنوع الألوان، عبر أنماط مختلفة من الإنتاج؛ فهناك البداوة المترحلة، وأهل القرى من الفلاحين، والفلاحة الرعوية التي مزجت بين البداوة والفلاحة، وهناك سكان القصبات الكبرى التي ضمّت مهاجرين من مدن وحواضر عربية مجاورة، مثل دمشق ونابلس والخليل والقدس، وكذلك حجازيين في عمّان، زاد حضورهم بعد عام 1921، وكان لهم قبل ذلك التاريخ تجارة رائجة عبر رجال قبيلة العقيلات، وغيرهم ممن استقرّوا في المدن والقصبات الكبرى منذ القرن التاسع عشر، مثل السلط والكرك وإربد وعجلون، وشكّلوا مع الأردنيين مجتمع التجارة والسوق، فنشأت هذه العلاقة المتداخلة. في الوقت نفسه، كانت المنطقة الشرقية تشهد زمن الغزوات في بيئةٍ بدويةٍ ارتهنت بمفهوم الديرة والترحال المستمر بحثا عن الموارد، وأيضا كان في محيط عمّان نوعٌ من الفلاحة الرعوية البدوية، والتي تشكّل الآن ما تسمّى قرى حزام عمّان، فغرباً يستقر العبابيد، فيما استقرّ بني حسن في منطقة التلال الشمالية - العالوك، ويمتدون في مناطق جرش والزرقاء، وهؤلاء لم يشاركوا في الغزوات، وهذا ما يفسّر تكاثرهم، إذ حافظوا على وجودهم داخل منطقتهم التي ظلت ممنوعةً من زيارة المستشرقين لها، بسبب حرص أهلها على المنطقة وعلى الخيرات الموجودة فيها. ولا يُغفل أيضا عن محيط عمّان من الحديث عن عشائر البلقاوية في المناطق الشرقية منها، وعن منطقة حسبان وناعور ووادي السير التي استقرّت فيها قبائل العجارمة تاريخياً، واندمج معهم الشركس والشيشان في صورةٍ مُثلى، فيما انتشر بنو صخر في المناطق الجنوبية وجزء كبير من الشرقية. وفي الجنوب، سادت أنماط استقرار مشابهة بما في عمّان ومحيطها، ثمّة سكان حواضر وبلدات كبرى في مأدبا والكرك والطفيلة ومعان، مع الوجود المسيحي في الكرك. والمعنى هنا أن هناك أنماطا حضرية متعدّدة: قبائل بدوية وفلاحون وسكان حضر، واستمرّت هذه الأنماط في البقاء. وفي العقبة التي كانت مطلع القرن العشرين جزءا من إقليم الحجاز كانت هوية متنوعة الأصول، بفعل كونها ميناءً بحريا.
يذهب البحث عن موضوع الهوية باتجاه المجتمع وتكوينه، والنسيج الاجتماعي المتداخل
يتناول الباحثون الغربيون هذه الفترة المتعلقة بولادة الأردن الحديث، للأسف، بقراءة لا تخلو من الشطط والتحامل في التفسيرات المعرفية، بل هي قراءةٌ إمبريالية في جزء منها، إذ يصوّرون الأردن أنه صناعة استعمارية، وأن أرضه كانت منطقةً خاويةً، وهذا غير صحيح. أما عدد سكان الأردن قبل الإمارة فلا يتجاوز مائتي ألف، وأول تعداد سكاني لشرق الأردن أفاد بأنهم نحو 230 ألفا، أي أن كل السكان لا يعادلون سكان مدينة كبيرة مثل دمشق أو حلب آنذاك، وهذا ليس معيبا، مع اعتبار أن الناس كانت تنظر نظرة سلبية لتسجيل أبنائهم في الإحصائيات، وهم قبل تأسيس الدولة كانوا ينتمون لخطوط وحدود ما قبل "سايكس بيكو"، وما زالت امتدادات التكوينات الاجتماعية مشتركة مع شمال السعودية وسورية والعراق.
ولكن كيف يعرف الأردنيون هويتهم؟ وماذا يحتاج الباحث والمؤرّخ في مسألة الهوية؟ الهوية هي نتاج تاريخي يختزل مجموعة من المؤثرات السياسية والجغرافية التي تتأثر برهان الصراعات الاجتماعية، وتأخذ مدى واسعا من الزمن، حتى تتحرّك وتشكّل حالة مستقرّة. تظل هذه الهوية بالنسبة للأردن الذي تعرّض لإصابات سكانية من الهجرات الديموغرافية القسرية عرضةً، بحسب التشكل، لعدة تأويلات.
وعند الحديث عن الهوية، يبدو من السذاجة الاكتفاء بالعودة إلى التاريخ فقط، أو الذهاب إلى تأكيد الشرعيات في إطار الحديث عن الهوية، أو الحديث إننا نمّس شرعية الدولة ورسوخها، فهذا أقربُ إلى توظيف التاريخ عبر مسألة الشرعيات، وليس مجاله البحث عن موضوع الهوية. ويذهب البحث عن موضوع الهوية باتجاه المجتمع وتكوينه، والنسيج الاجتماعي المتداخل الذي ليست له علاقة بتكوين النظام السياسي أو بناء المؤسسات، فنحن نتحدّث عن المجتمع وأنماط العيش في مجاميع بنائية متعدّدة، مع رصد طبيعة الإنتاج والتحولات والتعدد داخل الهيئة الاجتماعية. ولاحقاً يمكن الحديث عن أنظمة الحكم في الدولة وسياساتها تجاه الهوية، وكيف تتعامل معها، وهل هي سياسات واضحة أم مبطّنة. وهنا قد يفيد التاريخ قليلًا من باب الاستشهاد والإعانة لتحديد إطار زمني، والتاريخ ليس حشوة للهوية، بقدر ما هو مهم وملحّ للاستفادة منه في تفسير سلطة التماهي بين المجموعات التي تعرّف نفسها عادة بقولها: "نحن قبل الدولة"!
يُقرّ الدارسون بأن المجتمع الأردني فتيّ متعلّم، ليست فيه نتوءات طائفية أو عرقية
صحيحٌ أنه ليس لكل مجموعاتٍ من المجتمع خصائصها المميزة لها، وأن ثمّة اندماجا كبيرا اليوم بين الناس، ولكن ثمّة مجاميع تعتقد أن أي تطوير للفهم العام للمشاركة السياسية ومسألة هوية لتلك، وهي التي تُعبر عن نفسها في نسقٍ ذي نفوذ محدّد، فإن ذلك التحوّل سوف يطيح مكاسبها التاريخية.
يُقرّ الدارسون بأن المجتمع الأردني فتيّ متعلّم، ليست فيه نتوءات طائفية أو عرقية. لذا نحن في حاجةٍ لإدراك طبيعة تمثّل الجماعات داخل السلطة، ومعرفة النفوذ الذي تكتسبه هذه الجماعات التي تتخذ لها شكلًا هوياتياً خاصاً داخل المجموعات الاجتماعية، وبالتالي ما يمكّنهم من أن يعرّفوا أنفسهم بتعريف خاص.
لننظر إلى السياسات قليلاً هنا. حتى اليوم، يُكرّس النظام الانتخابي في الأردن هذا الموضوع في هل أنت بدوي أم فلسطيني مسيح أم شركسي؟ ذلك ما تكرّسه الكوتات، بالإضافة إلى وجود تمايز بصيغة هل أنت أردني أم فلسطيني؟ وفلسطيني من المخيم أم من فلسطينيي العاصمة؟ وكركي من جماعة عمّان أم كركي كركي، وطفيلي من الطفيلة أو من أهل الحي في عمّان. وتتعدد الأمثلة على ذلك، وبسبب عوامل متداخلة، منها اقتصادية، والهجرة من الريف، وارتفاع حدّة الصراع الاجتماعي وزيادة الفقر والبطالة، وعدم قدرة الدولة على تلبية مطالب الجميع، فقد يكون لتلك الظرفية أثرها في تحرّك تلك المجموعات، ودفعها إلى أن تتشكل وتفرز نفسها بتعريفاتٍ خاصة، قد تتطوّر إلى تحدّيات مستقبلية، لكن ذلك كله لا ينفي عن الأردنيين صفاء عروبتهم ووفاءهم لأمتهم وتفاعلهم الكبير مع قضاياها.
حقل الهوية والتاريخ مهم، ولكن ليس من الممكن العودة إلى التاريخ القديم والعيش فيه، يجب أن نتحدّث عن المسار المستقبلي لهذه الهوية
وعندما يتناول المؤرّخ موضوع الهوية، ربما يهتم بقراءة الوثائق والمتون والشروح، وربما يذهب إلى شواهد القبور. على سبيل المثال، تجد على شواهد القبور الشامية في الزرقاء تعبيرات هوية خاصة، كذلك قبور الأردنيين من أصول فلسطينية لا يزالون يثبتون عليها أسماء قراهم ومدنهم التي هاجروا منها. بالتالي، تُظهر دراسة النسق الأنثروبولوجي التاريخي هذه الانعكاسات والذهنيات في محدّد الهوية الفردية التي يجب أن تأخذنا إلى شكل التعبير الثقافي ومسألة الأصل التي هي حق للفرد في التعبير عنها.
حقل الهوية والتاريخ مهم، ولكن ليس من الممكن العودة إلى التاريخ القديم والعيش فيه، يجب أن نتحدّث عن المسار المستقبلي لهذه الهوية، وعن الخصائص المنتجة وطبيعة تشكّل المجتمعات الحديثة، والحديث عن نمط الإنتاج، التجار، العائلة الواحدة التي تتقدّم رأسيًا وتتمثل في السلطة، عبر الحياة السياسية والتحولات الاجتماعية وظروف العمل وغيرها. وعند الحديث عن الهوية الأردنية المكانية، لا مفرّ من الحديث عن الاقتصاد الفلاحي والدور المتعاظم للمدن، من دون إغفال الفلاحة والبداوة بوصفهما نمطي إنتاج، فحضورهما ما زال فاعلًا في المدينة، وإن بدا مستترًا، وموجود أيضًا للأسف في المؤسسات، وفي ثقافة المدينة التي تلعب فيها العصبيات، مثل البداوة والريف والقبيلة، يلعب كل منها دورًا بارزًا في ديناميكيتها الاجتماعية. وربما يبدو التمايز في الجامعات أيضا وفي تعيينات بعض الحكومات للوظائف العليا، وهذا يقوّض المتحد الوطني وأي محاولات إصلاح، ويجعل الثقافة والهوية الفرعية تنمو وترفع لواء الخصوصية، ويزيد من حدّة الاستقطاب وفقدان الثقة في العدالة.