سجن الجفر ... الصحراء في الخارج
لا يُذكر اسم الجفر، وهي منطقة تقع في جنوبي الأردن، إلا مقترناً باسم أشهر سجون الأردن، وأسوئها سمعة. وعندما أمر العاهل الأردني عبد الله الثاني بإغلاق السجن وتحويله إلى مدرسة ومركز تدريب مهني (عام 2006)، طالب أحد نزلائه القدامى من الشيوعيين (سامي النحّاس) بتحويله إلى متحف للحياة الحزبية في البلاد. ولا أظنّه أخطأ، فمن يريد أن يعرف الحياة الحزبية أو يوثّقها ستقدّم له يوميات السجناء السياسيين في الجفر، في خمسينيات القرن الماضي وستينياته وسبعينياته، الصورة الأكثر صدقاً للحَراك الحزبي الخصب، بالغ الحيوية، في الأردن آنذاك.
تردّد اسم الجفر قبل أيام، بعيداً عن كونه سجناً، بل مقترناً بالوفاة المأساوية لاثنين من أبناء المنطقة، عطشاً على الأغلب، بعد أن تعطّلت سيارتهما فتاها في الصحراء، ولم يتمكّنا من التواصل مع أقاربهما أو الجهات المختصّة بسبب عدم شمول المنطقة بتغطية الهواتف النقّالة.
ليس الجفر سجناً، إذن، بل منطقة تتبع محافظة معان، على الحدود مع السعودية، وفيها سكّان وبيوت ورجال ونساء وأطفال يولدون ويكبرون ويذهبون إلى المدارس ويحلمون بالسكن في العاصمة عمّان عندما يكبَرون، لكن قوة الصور النمطية لا تُخفي الشجرة، بل الغابة والبلاد بأسرها إذا شئتَ.
على أنّ ذلك لا يعني أن الجفر عندما اختُزِل في كونه سجناً كان يفتقر إلى الحياة، بل على العكس كان يضجّ بها. ويروي آمال نفّاع، وهو من قادة الحزب الشيوعي الأردني، أن السجناء كانوا منخرطين في خمسينيات القرن الماضي في محيطهم المحلي، برغبتهم وبتجاوبٍ من السلطات، فيعقوب زيادين الذي اعتقل في الجفر آنذاك كان يعالج المرضى من السجناء والحرّاس وأبناء المجتمع المحلي أيضاً. ويضيف نفّاع، في مقال كتبه في صحيفة "السجلّ" الأسبوعية التي كان يصدرها مصطفى حمارنة ويرأس تحريرها محمود الريماوي (صدرت في 2007 ثم تحوّلت مجلة قبل أن تتوقف)، أن السجناء، وبعضهم مهندسون زراعيون، ساهموا في تخضير المنطقة وزراعتها، وأن السجن كان يضم في مهاجعه كل التيارات السياسية الناشطة في حينه، من شيوعيين وبعثيين وقوميين عرب إلى إخوان مسلمين، ولكن الصراع بين هذه التيارات خارج السجن كان يتراجع لمصلحة تعايش وتضامن إنساني داخله بين المعتقلين، فالقيادي في جماعة الإخوان، يوسف العظم، وجد نفسه في مهجع واحد مع فؤاد نصّار، أحد أساطير الحركة الشيوعية في الأردن وفلسطين، وكان الأخير يستيقظ قبل العظم، ويعدّ طعام الإفطار قبل أن يوقظه ليتناولاه معاً.
ولم يقتصر التعايش، بل الشعور بالمسؤولية الأخلاقية، لدى أولئك السجناء على من يختلفون معهم سياسياً أو أيديولوجياً، بل شمل محيطهم المحلي وحرّاسهم أيضاً، فعندما طلب رئيس حرّاس السجن من السجناء تعليمه القراءة والكتابة فعلوا ذلك عن طيب خاطر. ورئيس الحرّاس آنذاك بالمناسبة هو والد سلامة حمّاد الذي أصبح وزيراً للداخلية فيما بعد.
أنتج سجن الجفر أيضاً ما يمكن اعتباره أدب المراسلات، فقد ضمّ نخبة من المثقفين والحزبيين الذين يندُر أن يجتمعوا في مكان واحد، ومن هؤلاء منيف الرزاز ويعقوب زيادين وعبد الرحيم بدر (والد الكاتبة ليانة بدر) ومنير شفيق في حقبته الشيوعية، وحنّا حتّر وفؤاد قسيس وعبد العزيز العُطي وسواهم، ومن هؤلاء من كانوا يراسلون زوجاتهم، مثل منيف الرزاز، القيادي في حزب البعث ووالد الروائي مؤنس الرزاز ورئيس الوزراء السابق عمر الرزاز، الذي كان يراسل زوجته لميعة بسيسو، كما فعل ذلك يعقوب زيادين الذي كان يراسل زوجته سلوى. ومن يقرأ رسائل هذيْن السياسييْنِ وسواهما يعثر على الجانب الآخر من الصورة، حيث هم، في نهاية الأمر، آباء وأزواج يذوبون عذوبة ورقّة، بل يحلّقون لغوياً على صعيد الإنشاء الأدبي، على خلاف الصور التي حرص مريدوهم على ترسيخها، من حيث كونهم مناضلين صِلاباً يصارعون الصخر، ويتحدّون الصحراء بلا ابتسامة واحدة على وجوههم.
للروائي مؤنس الرزاز رواية بعنوان "أحياء في البحر الميت"، يتضمّن عنوانها تلك المفارقة المؤسية في الحياة الأردنية بين الكائن والمكان. وفي الجفر، كانت ثمّة حياة تمور وتفيض خصوبة وثراءً إنسانياً رغم قسوة السجن والصحراء الممتدّة، وهي حياة ربما تفتقر إليها البلاد في حاضرها الراهن، حيث الصحراء لم تعد في الخارج، بل في الداخل للأسف.