سدّ النهضة: شعبوية باسم الديمقراطية
ليست القدرة على حلّ النزاعات سلمياً بين الدول معياراً لتصنيف البلدان بين ديمقراطية وتسلطية، بل هي أداة لقياس تطور الدولة أو تخلفها، فشلها أو نجاحها، ريادتها أو استجلابها التبعية. هذا لجهة العنوان العريض، لكن لا أحكام مطلقة في الموضوع، ذلك أنّ حلّ الإشكالات الحدودية أو الخلافات على الموارد الحيوية يتطلب إرادة جميع الأطراف المتنازعة. يصدف أن تتوفر النية عند طرف وتغيب عن الآخر، فعندها يصبح التمسّك بالنهج السلمي لدى الراغب بالحوار كأنّه تواضع في غير محله يسمح بالاستضعاف. لهذا السبب ولغيره، كُتبت قوانين دولية، وأنشئت محكمة العدل الدولية، للبتّ في نزاعات الدول لا الأفراد، وذلك كلّه في سبيل تفادي الحروب التي غالباً ما تنتهي إلى تأبيد النزاع لا إلى حلّه. تقدم لنا قضية سدّ النهضة مثالاً يصلح للتدريس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية عن مدى عدم ارتباط الدبلوماسية والخيارات الخارجية بوجود الديمقراطية داخل البلدان المتنازعة. والحديث يدور هنا عن أحد أخطر أشكال الحروب المحتملة: الحروب على المياه.
يتألف المشهد من ثلاثة بلدان فقيرة لا تعرف ديمقراطية حقيقية، شهدت محاولات فاشلة في معظمها للتخلص من التسلط، اثنان منها؛ إثيوبيا والسودان، تنقسمان إلى إثنيات وقوميات وأعراق وأحياناً أديان كثيرة لا تجد طريقها للتجانس أو للتعايش على الأقل. البَلَدان إياهما تنخرهما الحروب الأهلية بدرجات متفاوتة. الرأي العام في إثيوبيا يدرك جيداً معنى الحروب الداخلية ومع المحيط في إقليم الحروب، القرن الأفريقي، وثمة من أقنعه من حكامه الشعبويين بأنّ إقامة سدّ بحجم "النهضة" سيكون اقتصادياً واجتماعياً بمثابة اكتشاف آبار لا تنضب من النفط. السودانيون بدورهم يعرف طيف منهم معنى الاقتتال من دارفور إلى كردفان وغيرهما من مناطق شاسعة، زراعية غالباً. وإن كانت مصر هبة النيل كما يُقال، فإنّ الجارة الجنوبية تعتبر النهر العظيم سبباً لوجودها. عمر البشير أخبر شعبه ذات يوم أنّ السدّ سيقيهم من فيضانات النيل المدمِّرة، لذلك تحمست الخرطوم للحلم الإثيوبي لفترة وجيزة قبل أن تتغير معطيات السلطات بعد تغيير رأسها ليصبح الموقف رافضاً تماماً للمشروع الكبير. المصريون لم يختبروا الحروب الشاملة منذ 1973، لكنّهم يعرفون أنّه بلا مياه النيل، لن يكون البقاء على هذه الأرض ممكناً. المجتمعات الثلاثة تمتهن فئات واسعة منها الزراعة لكي تعتاش، أي أنّ المياه بالنسبة إليها جميعها لا تقلّ أهميتها عن قيمة الأوكسجين. أمام خريطة بهذه الدرجة من التعقيد، يسهل إغماض العيون وتصوّر المشهد الكارثي: فئات ربما تشكل غالبية في أوساط الشعوب الثلاثة، في حال أعطيت سلطة الاختيار بموجب استفتاء شعبي مثلاً، ستكون متحمسة لحسم النزاع لمصلحتها بالوسيلة القصوى: الحرب. ومن قال إنّ الديمقراطية لا يمكن أن تأتي بحروب مع الخارج؟ ومن الذي قال إنّ الديمقراطية في هذه الحالة ليست سوى اسم مستعار للشعبوية؟
في حالة سدّ النهضة، ما يجدي فعلاً لحلّ الأزمة سلمياً وبشكل عادل، ليست الديمقراطية، بل القدرة على ابتكار الحلول الممكنة بالضرورة نظراً لما تقوله الأرقام عن قدرة النيل على إنتاج الحياة في قارّة كاملة، وليس في بلد أو ثلاثة فحسب. ما يمكن أن يفيد في قضية السدّ هو القدرة على الوصول إلى المعلومات الدقيقة والعلمية التي لا تطاولها يد السلطات لتكيّفها حسب خطابها: كم تحتاج إثيوبيا من كمية مياه في خزان السدّ لكي تنتج الكهرباء التي تنقصها؟ كم تحتاج السودان ومصر لتحقيق الاكتفاء الذاتي من المياه والطاقة؟ كيف يمكن تقليص هدر المياه في البلدان الثلاثة؟ ما إمكانيات إقامة مشاريع تنموية مشتركة أساسها المياه بشكل يفيد البلدان الثلاثة؟
يُحسب لفقر البلدان الثلاثة دور في الحؤول دون اندلاع الحرب حتى الآن رغم كثرة المتحمسين لها. الحلول لسدّ النهضة تصبح ممكنة حين تقتنع السلطات الثلاث والشعوب الثلاثة بأنّ لا مكان للشعبوية وللرؤوس الحامية ولا للحلول الفردية في مسائل حسّاسة من هذا النوع باسم العودة إلى الشعب والديمقراطية.