سرقوا ماضينا وحاضرنا .. ماذا عن المستقبل؟
ما نعرفه من تاريخنا الحقيقي قليل جداً، فقد تعهدت مناهجنا التي ندرّسها لطلابنا بتشويه ذاكرتنا الجمعية، خصوصاً حين يتعلق الأمر بتاريخ الأتراك في بلادنا.
من المواقف بالغة الدلالة على عظم الدولة العثمانية المدنية ما يذكره أورخان محمد علي في كتابه اللطيف "روائع من التاريخ العثماني"، حين علم السلطان سليم الأول أن الأقليات غير المسلمة الموجودة في إسطنبول، من الأرمن والروم واليهود، بدأت تتسبب في بعض المشكلات للدولة العثمانية، وفي إثارة بعض القلاقل، غضب لذلك غضباً شديداً، وأعطى قراراً بأن على هذه الأقليات غير المسلمة اعتناق الدين الإسلامي، ومن يرفض ذلك ضرب عنقه.
أوروبا لم تعرف التعدّدية السياسية إلا بعدما اقتبست من الدولة العثمانية نظام الملل الذي استلهمته من الشريعة الإسلامية
بلغ هذا الخبر شيخ الإسلام، زمبيلي علي مالي أفندي، وكان من كبار علماء عصره، فساءه ذلك جداً، لأن إكراه غير المسلمين على اعتناق الإسلام يخالف تعاليم الإسلام، لأنه "لا إكراه في الدين". توجه الشيخ إلى قصر السلطان، وقال له: سمعت، أيها السلطان، أنك تريد أن تكره جميع الأقليات غير المسلمة على اعتناق الدين الإسلامي... كان السلطان لا يزال محتدّاً فقال: أجل، ما سمعته صحيح. وماذا في ذلك؟ فقال شيخ الإسلام: أيها السلطان، هذا مخالف للشرع، إذ لا إكراه في الدين، ثم إن جدكم محمد الفاتح، عندما فتح مدينة إسطنبول، اتبع الشرع الإسلامي، فلم يكره أحداً على اعتناق الإسلام، بل أعطى للجميع حرية العقيدة، فعليك باتباع الشرع الحنيف، واتباع عهد جدكم محمد الفاتح. قال السلطان سليم وحدّته تتصاعد: يا علي أفندي، لقد بدأت تتدخل في أمور الدولة.. ألا تخبرني إلى متى سينتهي تدخلك هذا؟ فيجيب الشيخ: إنني، أيها السلطان، أقوم بوظيفتي في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وليس لي من غرض آخر. وإذا لم ينته أجلي، فلن يستطيع أحد أن يسلبني روحي. فيقول السلطان: دع هذه الأمور لي، يا شيخ الإسلام. فيقول الشيخ: كلا أيها السلطان .. من واجبي أن أرعى شؤون آخرتك أيضاً، وأن أجنّبك كل ما يفسد حياتك الأخروية. وهنا، يذعن السلطان سليم لرغبة شيخ الإسلام، وبقيت الأقليات غير المسلمة حرّة في عقائدها، وفي عباداتها، وفي محاكمها، ولم يمد أحد أصبع سوء إليها.
وفي هذا السياق، يقول الكاتب فهمي هويدي إن أوروبا لم تعرف التعدّدية السياسية إلا بعدما اقتبست من الدولة العثمانية نظام الملل الذي استلهمته من الشريعة الإسلامية، وحفظت به خصوصية أهل كل ملّة. إن الإسلام ما دخل بلداً إلا وأبقى على كل ما فيه من ديانات وملل ونحل، حتى اعتبر المجوس أهل ذمة. بينما ما دخل الأوروبيون بلداً وصل إليه الإسلام في قارّتهم إلا وأبادوا كل من خالفهم في الديانة. وما حدث في الأندلس وصقلية شاهد على ذلك. ومن المفارقات الدالّة، في هذا الصدد، أن اليهود حين طردهم الكاثوليك من الأندلس في القرن السادس عشر لم يجدوا ملاذاً يحتمون فيه سوى الدولة العثمانية التي كانت ترفع راية الشريعة.
الغرب عنده بوصلة حضارية قوية جداً، إذ لم يترجم كتب عقيدتنا، ولا كتب أدبنا، ولا الجوانب القيمية، إنما ترجموا التكنولوجيا المحضة
أما الأوروبيون فلم يكتفوا بسرقة حاضر هذه الأمة، وخيراتها، واستقرارها، بل سرقوا تاريخها وعلومها، ونسبوا هذا كله لهم. في تسجيل مرئي شاع على مواقع التواصل الاجتماعي، يتحدّث المفكر وعالم اللسانيات وتاريخ الحضارة المغربي، أبوزيد المقرئ الإدريسي، عن العالم التركي فؤاد سيزكين، مبيناً دوره في إعادة الفضل في اكتشافات كثيرة موجودة في بحوث الغرب إلى أصلها العربي الذي حجبه الأوروبيون وانتحلوها، وهي معلوماتٌ قيمة يتعين على أبناء أمتنا معرفتها وتعليمها لأجيالهم الصاعدة المفتونين بحضارة الغرب.
عمل سيزكين 60 سنة مع فريق يتكون من عرب وألمان وأتراك، ونجح في الوصول إلى أكثر من 150 ألف كتاب، وتمكن هو وفريقه من فحص أكثر من 40 ألف كتاب منها، وتمكّن من التعريف بالأصول العربية لما يزيد على 35 ألفاً. وعن طبيعة بحوث سزكين، يقول المقرئ الإدريسي: يأتي بالكتاب الأوروبي ثم يتتبع أصوله، فيجد أنه في الأصل مُترجم، وقد أزال المترجم اسم المؤلف العربي، وبدلاً من ذلك وضع المترجم اسمه! وقد شملت تلك المباحث علوماً في البصريات والطب والفلك والجراحة والزراعة وعلوم البحار والملاحة والطقس وكل شيء. وثمة ثلاث قواعد شابت الترجمة الغربية في عصر النهضة، في القرون، الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، ابتداء من إيطاليا إلى أميركا، حيث كانت ترجمة "انتقائية، انتحالية، كتمانية".
لقد سرق الغرب ماضينا، وحاضرنا، ونصب علينا حكاماُ ولاؤهم له أكثر من أي شيء آخر
أما الانتقائية، فالغرب عنده بوصلة حضارية قوية جداً، إذ لم يترجم كتب عقيدتنا، ولا كتب أدبنا، ولا الجوانب القيمية. ترجموا التكنولوجيا المحضة، علم الميكانيكا الذي كان يسمى عند المسلمين علم الحيل، ترجموا الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك والهندسة والطب والتشريح والزراعة وصناعة السفن. أما الترجمة الانتحالية، فقد شطبوا أسماء العلماء وكتبوا أسماءهم بدلاً منها، خصوصاً الذين لم يشتهروا منهم. أما أمثال ابن سينا وابن رشد فهؤلاء اشتهروا، وصاروا رموزاً، فيما الآخرون غير المعروفين سُرقت مؤلفاتهم. أما الترجمة الكتمانية فعندما يضطر (الغرب) إلى الدخول إلى العلوم القيمية والأخلاقية الإسلامية، فإنه يفعل ذلك بكتمان شديد. مثلاً دخل الغربيون إلى الفقه الإسلامي، استثناء، فنقلوا المعاملات الاقتصادية. أخذوا علم الإدارة، والعناصر القيمية المحفزة للانضباط الاجتماعي والمحفز الاقتصادي، ولكنهم كتموا هذا.
ويروي المحاضر المغربي قصة رجل قانوني كبير في المغرب، هو إدريس الضحاك، وكان الأمين العام للحكومة برتبة وزير. أرسله الملك الحسن الثاني في الثمانينات إلى أميركا، ليأخذ الفرصة الكاملة حتى ينفتح على القوانين الأميركية المتعلقة بالتجارة. وفي إحدى الولايات، تواصل مع مسؤولة رفيعة، جاءت به إلى الأرشيف، وأعطته المراجع وتركته يدرس، رجعت بعد مدة فوجدته قد وضع علاماتٍ على النصوص القانونية التي يريد نقلها إلى المغرب، فأخذت تضحك، فشك في نفسه، فقالت له: كل هذه القوانين مأخوذ من الفقه المالكي الموجود عندكم من المغرب!
لقد سرق الغرب ماضينا، وحاضرنا، ونصب علينا حكاماُ ولاؤهم له أكثر من أي شيء آخر، فماذا عن المستقبل؟