سريلانكا .. الشعبوية تترك البلاد نهباً للمجهول
تدلّ الاحتجاجات الواسعة في سريلانكا، وفرار الرئيس وتعيينه من بُعد رئيس الوزراء رئيسا بالإنابة، ومن بين أمور أخرى، على أن السياسات الشعبوية لا تحقق بالضرورة الشعبية لأصحابها إلا إلى أمد قصير، ولا تسبغ عليهم الشرعية، وأنها باب مفتوح على الفساد والخراب، وذلك ما حدث في جزيرة الشاي، أو في بلاد سرنديب حسب تسميةٍ عربيةٍ قديمة، فقد صعدت عائلة راجاباكسا التي ينتمي إليها الرئيس غوتابايا وعدد من الوزراء وكبار المسؤولين، بعد بدء هزيمة نمور التاميل في العام 2005، وهي حركة تمرّد مسلحة نشطت نحو 35 عاما. وقد استندت هذه العائلة إلى هذا الانتصار، وإلى انتسابها للعرقية السنهالية، لتعبئة الشارع حولها، وهو ما حدث بالفعل، وأمكن للبلاد أن تشقّ طريقها إلى التنمية من دون أن تصبح نمراً آسيوياً بفضل صادرات الشاي والبن والمطاط، إلى جانب المجوهرات والأحجار الكريمة، وازدهار حركة السياحة إليها، وتحويلات مئات آلاف من العاملين في الخارج، وتدفق بعض الاستثمارات إليها في مجال العقار والبنية التحتية، وكذلك "بفضل" الديون ومعظمها للصين واليابان والهند والتخفيضات الضريبية الواسعة التي أدّت إلى انتعاش قصير الأمد لحركة التجارة، مع فقر العاملين في الزراعة، ومع شُحٍّ متزايد في الخزينة العامة. وقد جاءت تفجيرات إرهابية في العام 2019 طاولت كنائس وفنادق، ثم جائحة كورونا في مطلع العام 2020، لتكشفا فقدان القدرة على الصمود، فمع الإغلاقات الاقتصادية وانقطاع السياحة، ازداد العجز التجاري والمالي، وأخذ ينكشف شيئا فشيئا خواء الخزينة العامة ونضوب الاحتياطي المالي وشحّ الموارد. وعلى الرغم من أن الإنتاج الزراعي حافظ على مستواه بتلبية الاحتياجات الداخلية رغم نقص الأسمدة، كما حافظ القطاع الصحي على خدماته الأساسية حتى إبريل/ نيسان الماضي، إلا أن التراجع في الصادرات أثّر سلبا على الحياة الاقتصادية، فيما لم يعد متاحا استيراد موارد الطاقة، وهي عصب الحياة الاقتصادية، ما أدى إلى انقطاعات متتالية في التيار الكهربائي، وأخذ يدفع الدورة الاقتصادية إلى الشلل، فكان أن ثارت احتجاجات عامة مصحوبة بإضرابات وإغلاق للأسواق، منذ مطلع مايو/ أيار الماضي، من غير أن تلوح في الأفق أي بادرةٍ للحل.
سريلانكا مشمولة بمشروع طريق الحرير الذي يضم عشرات الدول، ولا ترغب بكين في ترك هذا البلد للنفوذ الهندي أو لأي دولة أخرى في المستقبل القريب
سارع ماهيدا راجاباكسا، شقيق الرئيس، والذي يتولى رئاسة الحكومة، إلى الاستقالة في مايو/ أيار الماضي، لامتصاص الاحتجاجات، لكن هذه لم تهدأ، وقد تم تعيين رئيس بديل للحكومة هو رانيل ويكر مسينغه، من غير أن يمتلك هذا أي خطة للإنقاذ. أما رئيس البلاد الذي يحوز صلاحيات واسعة، فقد واظب على عاداته بالاحتجاب والاعتصام بقصره، من غير أن يخاطب شعبه، أو يقوم بمهمات خارجية، أو يدعو مسؤولين أجانب لتوطيد علاقات بلاده الخارجية، متسلحاً بشرعيةٍ أسبغها على نفسه، وذلك بايلاء اهتمام واسع بالمعابد والمناسبات البوذية وتخصيص وزارة لمتابعة شؤونها، وذلك لاستمالة الشعب (22 مليون نسمة) بأكثريّته البوذية، إلى جانب الحدّ من الضرائب على الجميع، وبخاصة الأغنياء منهم. ومن دون أن يفتح قنوات حوار واتصال مع ممثلي القوى السياسية والاجتماعية، سوى في الأسابيع القليلة الأخيرة، حين ترنّحت الحكومة، ولكن المعارضة آثرت أن تترك الحكومة تنهار، ما ساهم في تفاقم العزلة الداخلية للمنظومة الحاكمة، والقائمة أساسا على وشائج عائلية. في الأثناء، توقفت الجارتان الكبيرتان، الصين والهند، عن منح مزيد من الديون والمساعدات، بعدما تبيّن عجز النظام عن حل مشكلاته، وأخطرها العجز عن سداد الديون أو جدولتها، والبالغة 51 مليار دولار، وكانت كولومبو قد سعت إلى نيل مزيد من الديون من الحكومة الصينية لسداد مستحقاتٍ عليها لمصارف صينية، لكن بكين رفضت الطلب. وهاتان الدولتان، إذ تتنافسان على النفوذ في هذا البلد، فهما من أكثر الدول المتضرّرة من تداعي الحكم في سريلانكا. وقد زار وزير خارجية الهند سوبرامانيام جايشانكار كولومبو في إبريل/ نيسان الماضي، عشية الاحتجاجات، من دون أن تفلح زيارته في وقف التداعي الذي اعترى مؤسسة الحكم. أما الصين فهي تتطلّع إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، داعية الجميع هناك إلى المحافظة على "المصالح الجوهرية للبلاد"، حسب قول ناطق رسمي صيني. وإضافة إلى الديون، سريلانكا مشمولة بمشروع طريق الحرير الذي يضم عشرات الدول، ولا ترغب بكين في ترك هذا البلد للنفوذ الهندي أو لأي دولة أخرى في المستقبل القريب. وقد سعى رئيس البلاد، قبل أيام من فراره، إلى اجتذاب نفط روسي، مستغلا أزمة الحظر الغربي على تصدير هذا النفط، إذ أجرى اتصالاً يوم السادس من يوليو/ تموز الجاري مع الرئيس فلاديمير بوتين لهذا الغرض، إلا أن الوقت لم يُسعف الجانبين في إتمام أي صفقة مفترضة.
يقلل من التشاؤم أن الاحتجاجات لم ترتدِ طابعاً عنيفاً أو مدمّراً. وحتى قمع التظاهرات لم يخلف سوى بضعة ضحايا
ويذكر هنا أن دول الخليج التي تحتضن أعداداً كبيرة من العمالة السريلانكية ترتبط، على تفاوتٍ بينها، بعلاقات تجارية واستثمارية واسعة مع سريلانكا، منذ عشرات السنين، ولن تتضرّر هذه الدول بصورة كبيرة وملموسة من الاضطرابات في هذا البلد، لكونها لا تقيم علاقات مالية خاصة مع الحكومة أو مع المصارف في سريلانكا، لكن شلل البلاد إذا طال زمنه، سوف ينعكس على مختلف مرافق الحياة. والأمر الذي يقلل من التشاؤم أن الاحتجاجات لم ترتد طابعا عنيفا أو مدمّراً. وحتى قمع التظاهرات لم يخلف سوى بضعة ضحايا. وقد لوحظ الطابع السلمي لدى اقتحام الرئاسة، حيث انصرف المقتحمون إلى السباحة في البركة الرئيسية للقصر، وفي التقاط الصور التذكارية مع الأحبّة، وفي تجريب معدّات التمارين الرياضية، والتنعّم ساعات في المقاعد الوثيرة للصالونات، وفي أسرّة النوم الرئاسية في أجواء من المرح. وكان أمرا لافتاً يعكس ثقافة هذا الشعب أن الرئيس حاول مغادرة مطار كولومبو، إلا أن موظفي المطار حالوا إدارياً دون تمكينه من الوصول إلى صالة الشرف ومن بدء رحلته، شأنه شأن أي مواطن ممنوع من السفر، ما اضطره للمغادرة واللجوء إلى قاعدة عسكرية والسفر منها، برفقة زوجته وحارسي أمن، إلى جزر المالديف، ومن هناك أصدر مرسوما ينيب فيه رئيس الوزراء القيام بصلاحياته، قبل أن ينتقل إلى سنغافورة، حيث أعلن فيها، الخميس، تنحّيه، علماً أن المطالبة بالتنحّي تشمل رئيس الحكومة أيضا، ما ينقل مهمة قيادة البلاد بصورة مؤقتة (شهرا) إلى رئيس البرلمان ماهيندو يابو أبيواردن، المعروف بقربه من الرئيس المستقيل، فيما يشكل الإعلان عن حالة الطوارئ تحدّياً لجموع المحتجين يفاقم من مشاعر نقمتهم، في وقتٍ لا تحظى فيه المعارضة بشعبيةٍ كبيرة في الشارع، ما يجعل الغموض سيد الموقف، ولو إلى حين.