سر نجاح حركة إنقاذ حارة الأرمن في القدس
سجّل المجتمع الأرمني في القدس نجاحًا أوليًا باهرًا الجمعة 29 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول) بوقف عملية تهويد البلدة القديمة، وذلك بصدور قرار محكمة إسرائيلية بأن منطقة بستان البقر التابعة لدير الأرمن منذ قرون محمية، وعلى أي جهة تخالف ذلك أن تتوجّه إلى المحاكم. وجاء قرار القاضي المفاجئ إثر محاولة أشخاص ملثمين كسر اعتصام على مدار الساعة، دعت إليه حركة إنقاذ حارة الأرمن، وأيده المجتمع المحلي، وفي الفترة الأخيرة رجال الدين، وحتى البطريرك الأرمني شارك فيه. وقد جاء قرار المحكمة في آخر محاولة من المستثمر اليهودي الأسترالي لإرهاب السكان ورجال الدين المعتصمين منذ شهور على أرض الدير، رفضا لمحاولات الاستيلاء على الأرض، بغرض إقامة فندق راقٍ في منطقة حساسة جدا في القدس القديمة، تربط حارة الأرمن بمنطقة حائط البراق، أو ما يسمّيه اليهود الحائط الغربي.
يقول المستثمر المشار إليه داني روتشيلد (يستخدم أحيانا كنية روبنشتاين) إن لديه عقدا من بطريرك الأرمن لاستئجار ربع أراضي حي الأرمن مدّة طويلة، تتضمّن، إضافة إلى ساحة بستان البقر أيضا، كلية اللاهوت للكنيسة الأرمنية، ومطعما، وعدّة منازل يقطنها أهل حي الأرمن. بقي البطريرك الذي ادّعى أن مسؤول الأملاك السابق للدير خدعه صامتا مدة طويلة، ما أجبر القيادتين الأردنية والفلسطينية على تجميد الاعتراف به، إلى أن يتم وضوح صورة تسريب هذه الأراضي الحسّاسة.
عملت حركة إنقاذ حي الأرمن على عدّة مستويات، منها العمل الداخلي، من خلال تظاهرة أسبوعية في ساحة الدير، ثم مع ازدياد المخاوف من تسريب الأرض، قامت بمبادرة اعتصام دائم على الأرض المهدّدة، ومنها جمع الأموال لتوفير تكاليف معركةٍ قانونيةٍ (لم تنته بعد)، ومنها التواصل مع الجاليات الأرمنية والحكومة الأرمنية ورجال الدين الأرمن في كل العالم.
أصدر رؤساء الكنائس بيانا داعما للأرمن، كما زار الموقع متضامنون محليون عديدون
لم يكن أحد يعرف الموقف النهائي لبطريرك الأرمن، نورهان مانوغيان، سوى عندما قدّم رسالة رسمية إلى المحكمة الإسرائيلية في 26 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أعلن عنها في بيان صحافي من البطريركية في الأول من ديسمبر/ كانون الأول، وقد يكون لأحداث طوفان الأقصى ووضوح العنصرية اليهودية دور في ذلك. وقد قوّى البيان الصحافي المبني على الرسالة القانونية التي تم إيداعها في المحكمة حركة إنقاذ حي الأرمن، وأغضب المستثمر اليهودي. وكان التخوف قبل ذلك مبنيا على خطورة توقيع البطريرك على عقد التأجير 99 عاما المثير للجدل، ما كان الأساس لموقف المجتمع المحلي والأطراف المحلية (الأردن وفلسطين) والحكومة الأرمنية، إضافة الى الموقف القوي للمجتمع الأرمني المحلي. ولكن، سرعان ما تم توضيح موقف البطريرك، حتى حاول المستثمر، ومعه أحد المواطنين العرب في إسرائيل (يبدو أنه شريك له) فرض سيطرتهم على الأرض المتنازع عليها، من خلال جلب الجرّافات، والبدء بحفر المنطقة. وقرر القائمون على حركة إنقاذ حارة الأرمن في البلدة القديمة إقامة اعتصام دائم على الأرض، وأيدهم المجتمع المسيحي في القدس، وأصدر رؤساء الكنائس بيانا داعما للأرمن، كما زار الموقع متضامنون محليون عديدون، أهمهم زيارة البطريرك اللاتيني الفلسطيني المتقاعد ميشيل صباح.
بقي الأمر بين شدّ وتراجع إلى غاية مساء الخميس. أصدرت بطريركية الأرمن بيانا عما جرى، جاء فيه أن أكثر من 30 محرضًا مسلحًا يرتدون أقنعة تزلج وأسلحة فتاكة وبعضها أقلّ فتكًا، بما في ذلك مواد أعصاب قوية أدّت إلى عجز عشرات من رجال الدين لدينا، اقتحموا أراضي بستان البقر وبدأوا هجومهم الشرس. وأفاد بأن عديدين من الكهنة والشمامسة وطلاب الأكاديمية اللاهوتية الأرمنية، بالإضافة إلى سكان حارة الأرمن، أصيبوا بجروح خطيرة. وقال البيان: "هذا هو الردّ الجنائي الذي تلقيناه بشأن تقديم دعوى قضائية إلى المحكمة المركزية في القدس بشأن حديقة البقر، والتي تلقتها المحكمة رسميًا قبل أقلّ من 24 ساعة. هكذا كان رد فعل رجل الأعمال الأسترالي الإسرائيلي داني روثمان (روبنشتاين) وجورج وروار (حداد) على الإجراءات القانونية".
محاولات التهويد في القدس القديمة دائمة، بالاستيلاء على الأملاك الفردية والجماعية
تدخّلت الشرطة، واعتقلت عدة معتدين وعددا من أبناء حي الأرمن، ولكن المحكمة قرّرت، صباح اليوم التالي، الإفراج عن المعتقلين، وأعلنت أن الأراضي المشار إليها تجب حمايتها من الاعتداء، إلى أن يتم بت نهائي في ملكيّتها. وجاء قرار المحكمة، حسب قول القاضي، بناء على الإرث الطويل لملكية الدير للأراضي المثبت بوثائق، في حين أن الطرف الآخر لم يتقدّم للشرطة بأي وثيقة تثبت ملكيته الأراضي، كما ادّعى.
ما حدث انتصار أولي لحركة إنقاذ حارة الأرمن، وستحتاج الحركة والمجتمع المحلي الاستمرار في اليقظة لحماية أملاكهم، ولكن لا بد من دراسة أساليب هذه الحركة وطرق عملها وإصرارها على العمل النضالي بدون عنف، لحماية املاكها من محاولات التهويد والسيطرة، رغم أن الحركة، في البداية، كانت تعمل بدون أي تعاونٍ مع البطريرك ورجال الدين، إلا أن الاستمرار في العمل الوحدوي مع المجتمع المحلي، ومع الجهات الدولية، أجبر الرئاسة الدينية على التراجع القانوني، وثم الانضمام للمعتصمين.
محاولات التهويد في القدس القديمة دائمة، من خلال الاستيلاء على الأملاك الفردية والجماعية التابعة للأوقاف. ولكن السر في التصدّي لهذه الحملات العنصرية يتم من خلال وحدة الحال، والتمسّك الثابت أمام كل محاولات الترهيب والتخويف، مهما كان مصدرها.