سطوة الرئيس في تونس
يعتبر رئيس الجمهورية شخصيّة محورية، حاضرة بشكل لافت في المشهد السياسي التونسي المعاصر. وتكتسب أهمّيتها من أنها شخصية قيادية، تشرف على مؤسّسة سيادية وازنة، وتتولّى تمثيل البلاد في الداخل والخارج، وتضطلع بمهامّ تنفيذيّة معتبرة، وعليها المعوّل في ضمان الوحدة الوطنية، واحترام الدستور، وتحقيق الاستقرار، وتنشيط الدبلوماسية الاقتصادية. والناظر في التاريخ الراهن لتونس يتبيّن أن شخصيّة الرئيس ظلّت، في الغالب، شخصيّة تراوح بين التمكين لسطوة الرئيس مع تمديد نفوذه إلى مجالات شتّى ومحاولات التأصيل لحكم تشاركي، يلتزم فيه الرئيس بصلاحياتٍ مخصوصة، ويتعاون ضمنه مع المؤسّسات السيادية الأخرى لتسيير شؤون البلاد. ويمكن تاريخيّا التمييز بين مرحلتين في سيرورة الرئاسة بعد الاستقلال: مرحلة الرئيس الأحادي، الشمولي قبل الثورة. وبعدها مرحلة الرئيس المكلّف، محدود الصلاحيات والمدّة بموجب الدستور الجديد.
عانى معظم التونسيين عقودا قبل الثورة ويلات الحكم الرئاسي/ الأحادي الذي يستأثر بموجبه الرئيس بجلّ الصلاحيات، ويستولي على كلّ السلطات، ويملأ وحزبُه المجال العام، ويزوّر الانتخابات، ويحتكر وسائل الإعلام، ويُقصي خصومه بشكل فجّ، وينصّب نفسه ناطقا باسم الدستور، ووصيّا على العقول وعلى الجمهورية، وعلى الحجر والبشر. كان ذلك مشهودا خلال حكم الحبيب بورقيبة ثم خلفه زين العابدين بن علي. استغلّ بورقيبة مستجدّات الظرف التاريخي، وفي مقدّمتها ترهّل حكم البايات، وتراجع الاستعمار، وانتشار حركات التحرّر الوطني، وصعود ظاهرة الزعيم القومي، ليدشّن انقلابا أبيض سلسا على الباي، وذلك بدعم داخلي وخارجي. وظهر للنّاس في صورة "المجاهد الأكبر" الذي دحر المحتلّ الفرنسي، وجاء بالاستقلال. وانتقل الرئيس بورقيبة عمليّا بالبلاد من حقبة الحكم الملكي إلى زمن النظام الجمهوري، وصوّب جهده نحو تعميم التعليم وعصرنته، ودعم حقوق المرأة، وتوفير الخدمات الصحية. ورسّخ دعائم حكم رئاسي مطلق، فطوّع القضاء لأهوائه، ولزجّ معارضيه في المعتقلات، وعدّل الدستور ليضمن لنفسه الحكم مدى الحياة، ووظّف المؤسسّتين، الأمنية والعسكرية، في جانبٍ ما، لقمع الاحتجاجات الشعبية المعارضة لسياساته.
مرحلتان في سيرورة الرئاسة بعد الاستقلال: مرحلة الرئيس الأحادي، الشمولي قبل الثورة. وبعدها مرحلة الرئيس المكلّف، محدود الصلاحيات والمدّة بموجب الدستور الجديد.
وكانت لبورقيبة اليد الطولى في تعيين من يريد وعزْل من يريد من المسؤولين صلب هياكل الدولة، وكان يتحكّم في رئيس الحكومة وأعضائها، وكان مجلس النوّاب عامرا بالموالين له من الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم. وأهدر مالا كثيرا في تشييد القصور، والاحتفال بأعياد ميلاده التي كانت تدوم شهرا ويزيد من كلّ عام، واحتكر الظهور الإعلامي ولا يكاد يخلو يوم من عهده من دون بثّ ما كانت تسمّى "توجيهات السيّد الرئيس"، واختزل فخامته جهود التونسيين وكدحهم في طرد الاحتلال وبناء الدولة الحديثة في شخصه، قائلا: "تونس هي أنا". ويعرف عنه أنّه لم يكن يقبل منافسا له على الكاريزما والزعامة من خصومه أو من أنصاره، حتّى سمّاه أحمد القديدي "بورقيبة مفترس الرجال"، فقد شاع إنه وجّه بتصفية صالح بن يوسف، عندما ذاع صيت الرجل، في الداخل والخارج، واختلف معه على كيفية استقلال تونس وطريقة حكمها. كما زجّ في السجن وزيره وحليفه أحمد بن صالح، عندما فشلت سياسة التعاضد التي أمره بتنفيذها. ودفع الوزير الأوّل محمّد مزالي إلى الفرار من البلاد عندما علا نجمه ونافسه في شعبيته في الداخل التونسي. ومن ثمّة، سئم طيف من التونسيين سطوة فخامته، وكرهوا النظام الرئاسي الذي أبّد الزعيم وغمط الناس جلّ حقوقهم.
أدّى تدهور الوضع الاقتصادي، وسوء الوضع الصحي لبورقيبة، وانحسار شعبيته، إلى انقلاب الجنرال زين العابدين بن علي عليه، ووضعه تحت الإقامة الجبرية. ولم يكن الخلف أفضل من السلف، فعلى الرغم من وعده بالتغيير والدمقرطة، وأن "لا ظلم بعد اليوم"، فإنّ بن علي سرعان ما انقلب على وعوده، وحكم البلاد بقبضة بوليسية حديدية، وهيمن وحزبُه على المجال العام، وأقصى مخالفيه، وقام بتصحير الحياة السياسية، ولم يُبْق سوى أحزاب كرتونية، صورية، موالية له، فيما احتوى الاتحاد التونسي العام للشغل، ووزّع معارضيه من إسلاميين، ويساريين وليبراليين، وحقوقيين بين السجون والقبور والمنافي، وانحسرت في عهده الحرّيات العامّة والخاصّة بشكل غير مسبوق، وجرى تثبيت ملحق لوزارة الداخلية في كلّ المؤسّسات الحيوية.
وتحوّلت تونس زمن سطوة بن علي إلى سجن كبير، وقد غيّر الدستور على مقاسه، ومدّد الحكم لنفسه مرارا. ولئن تحسّنت نسب النموّ في بداية عهده، فإنّها آلت إلى التراجع في أواخر حكمه، وتزايدت نسب الفقر والبطالة، وانتشرت ثقافة الرشوة والزبونية والمحسوبية. وتحدّث الدارسون عن ظهور اقتصاد العائلة الحاكمة، بعد أن سيطر الرئيس وأقاربه وأسرة زوجته على مصادر الإنتاج ومسالك التوزيع، وأمعنوا في نهب المال العام. وأورثت تلك السياسات السلطوية غضبا في نفوس معظم التونسيين الذين ضاقوا بالحكم الرئاسي/ الاستبدادي، ونزلوا إلى الشوارع احتجاجا على الدولة الشمولية القامعة، وهو ما أدّى إلى خلع الدكتاتور وفراره وأفراد أسرته إلى خارج البلاد.
في عهد قيس سعّيد، اشتدّ التوتّر بين مكوّنات هيئة الحكم (الرئاسة، البرلمان، الحكومة)، والنزاع على الدستور والنفوذ والصلاحيات
كانت الثورة الشعبية التي اشتعلت نهاية العام 2010، في جانب ما، ضدّ النظام الرئاسي البغيض، وجلّى ذلك شعار "الشعب يريد إسقاط النظام". لذلك أنتج الانتقال الديمقراطي نظاما برلمانيّا معدّلا، يكرّس سلطة الشعب، من خلال اختياره ممثّليه في البرلمان بطريقة ديمقراطية نزيهة، ويضبط صلاحيات رئيس الحكومة، ويقلّص من صلاحيات رئيس الجمهورية خشية تغوّله وتفرّده بمقاليد الحكم. وتعاقب على البلاد خلال عقد بعد الثورة خمسة رؤساء، تولّوا الحكم بطريقة دستورية، سلمية، سلسة (فؤاد المبزّع، منصف المرزوقي، الباجي قايد السبسي، محمّد الناصر، قيس سعيّد). لكنّهم تباينوا في مستوى التزامهم بصلاحياتهم واحترامهم الدستور. تحمّل المبزّع والناصر مسؤولية الرئاسة في وضع استثنائي، وتفاديا للفراغ في أعلى هرم السلطة. فالأوّل حكم بعد هروب بن علي، والثاني حكم بعد وفاة السبسي، وكل منهما احترم حدوده وضمن السيرورة العادية لدواليب الدولة. فيما يُعتبر منصف المرزوقي من أعلام التجربة الديمقراطية في تونس، ففي عهده تمّت صياغة الدستور الجديد، وازدهرت الحرّيات بشكل غير مسبوق، وأحسن تمثيل البلاد في الخارج، خصوصا لدى الاتحاد الأوروبي، ومدّ جسور التواصل مع دول إفريقية، ومع بلدان داعمة لتونس (تركيا، قطر، المغرب)، وعزّز حيادية المؤسسة العسكرية وجاهزيتها، وكان على تعاونٍ معتبر مع البرلمان والحكومة ومنظمات المجتمع المدني. ومع السبسي بدأت بشكل واضح بوادر الصراع على الصلاحيات بين رئيسي الجمهورية والحكومة، فقد أراد التحكّم في الهيكل الحكومي، وكان له ذلك في حكومة الحبيب الصيد. لكنّ خلفه يوسف الشاهد لم يكن طوْع السبسي، واختلفا في مسائل ولم يُفلح رئيس الجمهورية في إطاحته نظرا إلى وجود حزام حزبي من حوله. وعلى الرغم من الخلافات، تحلّى السبسي بروح المسؤولية، ومرّر تحويرا (تعديلا) وزاريا أجراه الشاهد، على الرغم من اعتراضه على بعض الوجوه، وفعل ذلك ضمانا لسيرورة الدولة، ولكي لا يكون مصدر تأزيم بل رئيسا توافقيا، جامعا إلى حدّ ما.
لم يقدّم قيس سعيد أيّ مبادرةٍ تشريعيةٍ لتغيير ما يريد تغييره، ويبدو أنّه يريد أن يعمل خارج المؤسّسات أو فوقها
أمّا قيس سعيّد، فمعروف بفصاحته، ونظافة يده، ودرايته الواسعة بالقانون الدستوري، واصطفافه نظريا إلى جانب الشباب والفقراء ومناداته بمكافحة الفساد، ومناهضة التطبيع مع إسرائيل، ولا يُخفي ازدراءه الأحزاب والبرلمان، ورغبته في تغيير النظام السياسي وتوسيع صلاحيات الرئيس. لكنّه عمليّا يبدو بلا برنامج واضح المعالم، وسياساته الاتصالية متعثّرة، ولم يقدّم أيّ مبادرةٍ تشريعيةٍ لتغيير ما يريد تغييره. ويبدو أنّه يريد أن يعمل خارج المؤسّسات أو فوقها، ومعه توقّفت الدبلوماسية الاقتصادية أو تكاد، ولم يكن لتونس حضور وازن في المحافل الدولية. وكثيرا ما تحدّث داخل المؤسسة العسكرية والأمنية أو خارجها عن "غرف مظلمة، وعن مندسّين، وعن مؤامرات تُحاك لتونس، وعن أطراف تريد التسلّل إلى المؤسسات السيادية لضربها من الداخل وبثّ الفتنة"، من دون أن يسمّي الأشخاص والأشياء بأسمائها، فكان خطابه هُلاميا، مُلغزا، غير جامع، ولا يبعث الطمأنينة في النفوس.
وفي عهده، اشتدّ التوتّر بين مكوّنات هيئة الحكم (الرئاسة، البرلمان، الحكومة)، والنزاع على الدستور والنفوذ والصلاحيات. وامتناع سعيد، أخيرا، عن قبول أداء الوزراء الجدد اليمين بعد التعديل الوزاري دليل على ذلك، وهو توجّه يُعطّل سيرورة الدولة، ويقلّص من شعبية الرئيس. والحكم بفساد وزير من اختصاص القضاء، وتعيين أعضاء الحكومة من اختصاص رئيس الحكومة، ورفض قبول أداء اليمين "خرق جسيم" لتكليفٍ مقيّد بموجب الدستور بحسب قانونيين. والقول إن الرئيس يحتكر تأويل الدستور خطأ شائع، فالرئيس مطالب باحترام الدستور والسهر على تنفيذه، لا احتكار تأويله. ولا يمكن للرئيس أن يكون قاضيا، ورئيس حكومة، وناطقا باسم الدستور في آن في ظلّ نظام ديمقراطي. وفي غياب المحكمة الدستورية، يُفترض مراجعة الهيئة العليا لمراقبة دستورية القوانين أو المحكمة الإدارية أو البحث عن حلّ سياسي للأزمة، بوساطة بعض حكماء المجتمع المدني أو اتحاد الشغل.
ختاما، قطعت الثورة التونسية مع نظام الحكم الرئاسي، ومن أراد تغيير النظام السياسي الراهن فليفعل في إطار مؤسسي/ دستوري. وأحرى بالجميع تأسيس المحكمة الدستورية لفضّ النزاع على الدستور والنفوذ والصلاحيات، والتوجّه إلى بلورة استراتيجية جامعة/ ناجعة لتحقيق الانتقال الاقتصادي المنشود.