سعيّد وإعادة تشكيل المنظومة السياسية التونسية
بعد مضي قرابة الشهر ونصف على "إجراءات" الرئيس التونسي، قيس سعيّد، في 25 يوليو/ تموز، لا تزال الأزمة السياسية في تونس محلّ خلاف بين من يصف تلك "الإجراءات" انقلابا على الدستور والمبادئ الديمقراطية، بتشجيع من دول "الثورة المضادّة"، وآخرين يصفونها "حركة تصحيحية" لإعادة الثورة الشعبية إلى مسارها الصحيح. وبصرف النظر عن هذا الخلاف، يبدو أن سعيّد ماضٍ في تنفيذ خطته الهادفة إلى إعادة تشكيل المنظومة السياسية التونسية بكاملها، وفقاً لرؤيته وأهدافه في محاولة للإمساك بكامل خيوط السلطة، واستكمال السيطرة على الدولة التونسية، في تكرار للتجربة المصرية، وإنْ بأدوات أخرى. وقد بدأت مساعي الرئيس التونسي الفعلية بإعادة تشكيل المنظومة السياسية في البلاد تتكشف تباعاً، من خلال تأويلاته الفريدة نصوص الدستور التونسي، والتي نتجت عنها مجموعة من "الإجراءات" التي هدفت، فيما هدفت إليه، إلى محاولة السيطرة على الحياة السياسية وتجميع السلطات بيده، حيث تجلّت أولى هذه الخطوات بتعليق عمل البرلمان شهرا، ورفع الحصانات عن النواب وإعفاء رئيس الحكومة من منصبه وتوليه مسؤولية النيابة العامة، إلى جانب إجراء تعييناتٍ عديدة في مؤسساتٍ مدنية وعسكرية وأمنية عديدة حساسة، بالشكل الذي يعزّز سلطته وسيطرته على هذه المؤسسات، ترافق ذلك كله مع خطابات شعبوية، غازلت التونسيين بكلام جميل وشعارات زائفة، تحبّبهم فيه، وتجعلهم يكرهون في النخب السياسية والنظام السياسي، إلى جانب حملةٍ إعلامية كبيرة وممنهجة، استهدفت قوى سياسية وبرلمانية عديدة، ترافقت مع اعتقالات وإقامة جبرية وحظر للسفر على بعض الشخصيات، وتعزّزت هذه المساعي من خلال تمديد العمل بـتلك "الإجراءات" إلى أمد غير محدد، بعد انتهاء سقفها الزمني الدستوري المحدّد بـ 30 يوماً.
من خلال قراءة متأنية لهذه "الإجراءات" وغيرها يمكن الوقوع على الأهداف التي يسعى قيس سعيّد إلى تحقيقها، وفي مقدمتها تحقيق مكاسب سياسية تساعده على ترجمة تصريحاته ووعوده التي أطلقها خلال حملته الانتخابية، وكرّرها أكثر من مرّة بعد وصوله إلى قصر قرطاج، والمتعلقة بإعادة تشكيل المنظومة السياسية التونسية. فالرجل، منذ اليوم الأول لظهوره السياسي، لم يخفِ إعجابه بدستور 1959، باعتباره دستوراً رئاسياً وشديد المركزية، لذا طالب مرّاتٍ بتعديل دستور 2014 الذي قال عنه إنه "كله أقفال"، كما طالب بالنظام الرئاسي، عوضاً عن البرلماني في الحكم، وتوزيع السلطات على أكثر من جهة، وطالب أيضاً بتبنّي "الديمقراطية المجالسية" القائمة على انتخاب مجالس محلية، عبر التصويت للأفراد بالأغلبية، عوضاً عن "الديمقراطية التمثيلية" ومنظومة الأحزاب التي يعدّها أنموذجاً وهيكلاً سياسياً فاشلاً غير قادرة على تلبية طموح الشعب التونسي وتطلعاته بعد الثورة.
منذ اليوم الأول لظهوره السياسي، لم يخفِ سعيّد إعجابه بدستور 1959، باعتباره دستوراً رئاسياً وشديد المركزية
وبالتالي، حاول الرئيس التونسي، منذ انتخابه، في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، إيجاد الظروف الملائمة لتحقيق أهدافه وغايته، وهو في كل "إجراءاته" السابقة كان يتحرّك بمنطق البديل، لا بمنطق الشريك، فالتحوّل إلى النظام الرئاسي على سبيل المثال كان يحتاج قوة شعبية وحزبية وأغلبية برلمانية لا يملكها، على اعتبار أنه ليس لديه حزب سياسي ولا حليف موثوق، والأغلبية البرلمانية معارضة له ولرؤيته، في حين أصبحت الأمور أسهل بعد "إجراءات 25 يوليو" التي نتج عنها تجميع السلطات الثلاث بيده. لذا يرى باحثون ومهتمون أنّ الرئيس التونسي يتحيّن الوقت المناسب لإعلان خطواته اللاحقة، والتي يمكن استخلاصها من تصريحاتها المتتالية التي أكدّ فيها نيته "إعادة الأمانة إلى الشعب"، الأمر الذي يعني حل البرلمان الحالي، وتعليق العمل بالدستور، لعرض مسودة مشروع دستور جديد على الاستفتاء الشعبي لتغيير النظام السياسي، من شبه مختلط إلى نظام رئاسي يكون فيه دور رئيس الحكومة محدوداً في تطبيق توجيهات الرئيس، يتبعها إجراءات انتخابات تشريعية جديدة، تنتج برلمانا وحكومة جديدين. وربما يكون هذا السبب الرئيس في عدم كشف سعيّد عن مشروعه السياسي كاملاً، وعدم تكليف أي شخصية لشغل منصب رئيس الوزراء، على الرغم من مرور قرابة شهر ونصف على "إجراءاته"، وهو سببٌ يتناغم تماماً مع رؤيته إلى منظومة الحكم الجديدة التي يعمل على إحلالها، عوضاً عن منظومة الحكم التي كانت سائدة قبل 25 تموز/ يوليو، مستنداً في تحقيق ذلك إلى أربعة عوامل: شعبيته الواسعة المدعومة بأكثر من ثلاثة ملايين ناخب. خطاب شعبوي يغازل المواطنين بكلام جميل وشعارات زائفة، تحبّبهم فيه وتجعلهم يكرهون النخب السياسية والنظام السياسي. وثالثها دعم المؤسستين الأمنية والعسكرية وبعض الأحزاب المناهضة لحركات الإسلام السياسي المتمثلة بحركة النهضة. مساندة دول عربية وإقليمية، وغض طرف دولي للإجراءات التي اتخذها.