سوناك والإرث الاستعماري
احتلّ اختيار ريشي سوناك رئيساً للوزراء في بريطانيا صدارة العناوين الإعلامية، تحديداً في الوطن العربي، على خلفية الأصول الهندية التي ينحدر منها رئيس الوزراء الجديد، وكونه أول بريطاني من جذور مهاجرة يصل إلى هذا المنصب. انشغل الكثير من الكتّاب والمحللين العرب بهذه الجزئية، وبنوا عليها قراءاتٍ كثيرة، فيما لم يهتم أصحاب الشأن أنفسهم، أي الإعلام البريطاني بيمينه ويساره، بهذا الأمر، ورآه أمراً عادياً في أي دولة ديمقراطية توصل أصحاب الكفاءة إلى المناصب التي يستحقونها (على افتراض أن سوناك يستحقّ ما وصل إليه). ربما يكون هذا التعامل الإعلامي، الغربي والبريطاني، محاولة للتغطية على شوائب عنصرية تعتري الحياة السياسية في الدول الغربية، وربما فعلاً لم يجدوا الأمر هجيناً، خصوصاً أن كثيرين من أبناء المهاجرين وصلوا إلى مناصب رفيعة المستوى، سواء في بريطانيا أو غيرها من الدول الأوروبية. ويمكن الإشارة هنا إلى عمدة لندن صديق خان على سبيل المثال، وكثير غيره من الوزراء البريطانيين، والأمر نفسه في عدد من الدول الأوروبية التي احتل فيها أبناء مهاجرين مناصب حكومية، حتى أن بعض المهاجرين الجدد، من سوريين وعراقيين، نجحوا في انتخابات محلية وتولوا مناصب رسمية.
لكن بغض النظر عن فكرة الاحتفاء بالديمقراطية الغربية التي أوصلت سوناك، ابن المهاجرين، إلى رئاسة الحكومة، لا بد من متابعة سوناك نفسه وخلفيته، وما إذا كان هو يرى نفسه واحداً من أبناء المهاجرين الذين أغنوا بريطانيا ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. الإجابة لا تحتاج إلى كثير من التفكير، فالرجل يصنّف نفسه بريطانياً بالدرجة الأولى، ولا يحمل الفكرة نفسها التي أوردناها سالفاً عن اللاجئين القادمين إلى البلاد.
موقف سوناك يعود لعدد من الأسباب، أولها، وربما أهمها، أن هجرة عائلة سوناك إلى بريطانيا لم تكن من الهند، حيث من المفترض أنه يتحدر، بل من أفريقيا. ففي مرحلة من مراحل الاستعمار البريطاني لعدد من الدول الأفريقية، وظفت المملكة المتحدة الكثير من أبناء الهند لأداء الدور الاستعماري نيابة عن البريطانيين في هذه الدول، وهو ما أدّاه هؤلاء على أحسن وجه. وإلى اليوم في جنوب أفريقيا، ما تزال هناك جالية هندية كبيرة هي نتاج هذا التوظيف. وللمفارقة، فإن المهاتما غاندي كان واحداً من الذين استعانت بهم المملكة المتحدة، وعمل في جنوب أفريقيا. ويدور لغط كبير حول الدور الذي لعبه غاندي هناك، وما إذا كان جزءاً من الممارسات العنصرية التي مورست ضد الأفارقة، قبل أن يعود إلى الهند ويطلق نضاله اللاعنفي ضد الاستعمار البريطاني.
عائلة سوناك وغيرها من العائلات لم تعد إلى الهند، بل انتقلت إلى بريطانيا متشربة الإرث الاستعماري للمملكة المتحدة الذي مارسته في أفريقيا. حتى أنه في بريطانيا كان التصنيف واضحاً، بين الهنود أنفسهم، حول أولئك الذين قدموا من الهند وأولئك الذين أتوا من أفريقيا، وكان الاختلاط بينهم في حده الأدنى.
من هذه الخلفية يستقي سوناك مناهضته للاجئين، ويعد بتنفيذ سياساتٍ واسعةً لمحاربة موجات اللجوء وتوسيع إجراءات الترحيل التي أقرتها حكومة بوريس جونسون. وللمفارقة أيضاً، فإن إجراءات الترحيل المثيرة للجدل إلى رواندا، والتي تدخلت محكمة حقوق الإنسان الأوروبية لوقفها، أنجزتها وزيرة الداخلية بريتي بيتيل، وهي أيضاً من نسل مهاجرين هنود أتوا من أفريقيا.
وفق هذا السياق، فإن وصول سوناك إلى تولي أعلى المناصب السياسية في بريطانيا لا يمكن تصنيفه بأنه انتصار للمهاجرين أو إثبات لنجاعة إجراءات الاندماج التي اعتمدتها بريطانيا، بقدر ما هو مؤشر على قدرة المملكة المتحدة على نقل إرثها الاستعماري، حتى للمهاجرين.