سيادة الرئيس: لا تذهب إلى غزّة
لا يحتاج الغزّيون، في ظروفهم التي نعرف، إلى زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، لهم، بل إلى وقوفه معهم، إن لم يكن مُقاتلاً بحكم التقدّم في السن، ففي الأقلّ سفيراً لهم في العالم، لا في تركيا وحسب، يدافع ويمثّل ويحشد ويحوّل أروقة الدبلوماسية الدولية ساحةَ حربٍ ضدّ إسرائيل، لكنّ عبّاس لم يفعل هذه ولا تلك، وحافظ على أدائه البارد، الشبيه بأداء وزير في الحكومة الفنلندية. وليته اكتفى بهذا، بل ترك رجالاتِه، أو بعض المحسوبين عليه في الأقلّ، ينهشون في المقاومة على شاشات تلفزةٍ لا تُخفِي أجنداتها المناوئة للمقاومة في غزّة، ولأيّ مقاومة في العالم.
طوال عشرة أشهر دُمّر خلالها أكثر من 80% من قطاع غزّة تماماً، واستُشهد أكثر من 40 ألف فلسطيني، حافظ الرجل وبعض رجالاته على أسطوانتهم المشروخة إياها، وهي لوم الضحية واتهامها بمنح إسرائيل الذرائع لشنّ حرب الإبادة، وتذكيرها بأنّها انقلبت على ما تسمّى الشرعية، وخرجت عن الإجماع وعلى منظمة التحرير الفلسطينية، فما الذي حدث حتّى ينقلب عبّاس على نفسه، ويعلن عزمه الذهاب والقيادة الفلسطينية (يقصد قيادة السلطة وحركة فتح) إلى غزّة، بل الإيحاء باستعداده للاستشهاد؟
الإجابة نجدها في تصريحات عضو اللجنة التنفيذية لمنظمّة التحرير، أحمد مجدلاني، في تقرير نشرته "العربي الجديد" قبل أيام، وفيها يوضّح هدف الزيارة وتوقيتها المُفترَض، فهي لن تكون غداً أو في أقرب فرصة، بل ضمن ترتيبات القيادة الفلسطينية لليوم التالي لحرب الإبادة، وهدف الرسالة التي وجّهتها قيادة السلطة إلى إسرائيل ودول العالم والمؤسّسات الأممية التحضير للزيارة عند وقف إطلاق النار، ولأنّ ذلك يستغرق وقتاً، أي تأمين الزيارة والضغط على إسرائيل للسماح بها، فإنّ طلبها كان استباقياً ولكسب الوقت ليس أكثر. أمّا الهدف فهو تأكيد وحدة الأراضي الفلسطينية في قطاع غزّة، وفي الضفّة الغربية، وفي القدس الشرقية، وعلى ولاية منظمّة التحرير عليها.
قد يقول قائل إنّ عبّاس تذكّر متأخّراً ولاية المنظّمة على شعبها وأرضها، وأن تأتي متأخّراً أفضل من ألا تأتي أبداً، لكن الأمر غير ذلك، ويُدْرَج في حال النظر إليه بحسن نيّة، في سياق استقالة هذه القيادة من دورها خلال العدوان الوحشي غير المسبوق على غزّة، الذي لا يستهدف الكيانية الفلسطينية وحسب، بل الوجود الفلسطيني برمّته، ما توجّب على هذه القيادة أن تكون في المكان المُتقدّم من خطّ المجابهة والقتال، لا انتظار نتائجه لاقتناص فرصةٍ يتيحها الغزو والغزاة لعودة عبّاس إلى غزّة قائداً على جثَّة شعبه، لا مقاتلاً للذود عن وجود هذا الشعب في كلّ مكان.
في سبتمبر/ أيلول عام 1983، فوجئ رجال الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات به بين صفوفهم في طرابلس (شمال لبنان)، ليقودهم ضدّ محاولات نظام حافظ الأسد القضاءَ على الشرعية الفلسطينية، وتنصيب قيادة بديلة. كان عرفات حينها في تونس بعد الخروج الكبير من لبنان، ضعيفاً وبعيداً عن فلسطين، التي كانت في مرمى حجر، عندما رأى الأسد يحاول سحب البساط من تحت قدميه، فعاد إلى لبنان متنكّراً في زي رجل دين جزائري. عاد ليقاتل مع رجاله. عاد لأنّ الهوية الفلسطينية لا تحتمل قراءتَين، ولا تقبل قسمةً بين مشروعَين وقيادتَين. ومن مخيّمات الشمال اللبناني، قاتل الرجل، وناور، وحاور، وفاوض، حتّى اُجبر على الخروج مُجدّداً، لكنّه لم يسمح لأيّ كان غيره بأن يمثّل الشعب الفلسطيني، ولم يُلقِ السلاح، ولم يتخلَّ عن شعبه في تلك المحنة، وهو ما لم يفعله محمود عبّاس.
كثيرون يقارنون بين الرجلَين، ومعهم حقّ، وكثيرون يلقون باللائمة على عبّاس قبل سواه في الانقسام الفلسطيني، وذهب كثيرون إلى أنّ انقساماً كارثياً كالذي حدث عام 2007 ما كان له أن يكون لو كان عرفات في قيد الحياة، أو في الأقلّ ما كان له أن يتكرّس، فكما فعلها في طرابلس في ثمانينيّات القرن المنصرم كان سيفعلها في غزّة، لا في عام 2007 وحسب، بل وفي أيامنا هذه لو كان حيّاً، وربّما فوجئ الجميع به بينهم في غزّة حاملاً سلاحه مثل أيّ مقاوم غزّي، دفاعاً عن شعبه لا عن عرشه أو عن رأسه.