سيرة رياض سيف وشهادته للتاريخ .. وقائع سورية
الجزء الأول من كتاب "سيرة ذاتية وشهادة للتاريخ" (مؤسسة الجديد، بيروت، 2020) للمعارض السوري، رياض سيف، (حرره أكرم البني وأسامة العاشور) وثيقة هامة ومعلنة، تكشف حقائق غائبة عن سوريين كثر وسواهم، وترصد أحداث مرحلة مهمة من تاريخ سورية خلال حكم نظام الأسد (بنسختيه الأب والابن) الاستبدادي، تمتد من 1963 إلى 2008، سيما وأن مذكرات الفاعلين في المجال السياسي السوري، وخصوصا معارضي نظام الأسد، نادرة، على الرغم من أنهم عاشوا أحداثا تاريخية حاسمة في التاريخ السوري الحديث.
وإذا كانت السيرة الذاتية السياسية محكومة بما يرويه الأشخاص عن أنفسهم وعن أدوارهم في المراحل والأحداث التي عاصروها، انطلاقا من تجاربهم الخاصة، وأيضاً الجماعية، فإن كتابتها تسهم في تحويل الذاكرة المخفية إلى ذاكرة علنية في متناول الجميع. ولذلك أهمية ما يرويه رياض سيف تكمن في تقديمه شهادة تاريخية للأجيال السورية، وللمؤرخين وللباحثين والدارسين، مع أنها ليست جردة حسابٍ أو تقييما لما قامت به المعارضة السورية وشخصياتها في تلك المرحلة المفصلية، ولم تقدّم نقداً كاشفاً لها.
وتنهض سيرة رياض سيف على سرد تاريخي شخصي لأحداث ووقائع كان فاعلاً ومتأثراً فيها خلال فترات معينة، وهي تعبّر عن تجربته في الحياة العامة السورية خلال فترةٍ تبدأ من تسعينيات القرن الماضي، وتمتد إلى نهاية العشرية الأولى من القرن الحالي، ولا تخرج عن منطق السير الذاتية عموماً في التمركز على الذات، وتضخيم دورها في بعض الأحداث، لكن ما يميّزها أنه من خلال ما عاناه خلال فترة دخوله مجلس الشعب، ثم مشاركته في ربيع دمشق وإعلان دمشق، يكشف فظائع أجهزة نظام الأسد ومافياته وطغمته الفاسدة بحقه.
من الصناعة إلى التشريع
يروي رياض سيف في الباب الأول للكتاب تجربته في مجال الصناعة، وانتقاله إلى العمل في الشأن العام من خلال دوره نائبا مستقلا في مجلس الشعب في فضح الفاسدين، ثم مشاركته في ربيع دمشق عبر جمعية "أصدقاء المجتمع المدني"، وتأسيسه منتدى الحوار الوطني، لينتهي الباب الأول بالحديث عن حيثيات اعتقاله ومحاكمته وسجنه الأول. ويروي في الباب الثاني عن خروجه الأول من السجن، ومشاركته في إعلان دمشق والضغوط والممارسات التي تعرّض لها من أجهزة النظام، والملاحقات والاعتقالات التي طاولت سياسيين وناشطين، وأفضت إلى اعتقاله للمرة الثانية، لينتهي الباب الثاني باضطراره إلى تقديم استقالته من رئاسة الأمانة العامة لإعلان دمشق.
ويروي رياض سيف أنه، في البدايات، استهواه العمل في الزراعة، حيث ورثت زوجته قطعة أرض صغيرة، فراح يقتني كتباً عن الزراعة وأساليبها الحديثة، لكنه توصَّل، بعد قراءة بعضها، إلى أنه ليس ثمّة جدوى اقتصادية يمكنه تحقيقها في مساحةٍ صغيرةٍ من الأرض، فتوجَّه نحو النشاط الصناعي، مرجعاً ذلك إلى أن شروط هذا النشاط وآلياته كانت الأقرب إلى طبيعته الشخصية والأكثر ملاءمة لمرجعيته الأخلاقية، فانطلق، في نشاطه الصناعي في صيف 1963، حيث أسّس مع أخوته شركة قمصان 400 "سيف إخوان"، ثم في 1984 انفصل عن إخوته، وأصبحت شركته مستقلة، ونال نجاحاً متدرّجاً قاده إلى تأسيس "شركة أديداس الجديدة" عام 1993، بعد أن حصل على امتياز تصنيع منتجات شركة أديداس العالمية من الملابس الرياضية، وكانت الأولى من نوعها في سورية والبلاد العربية.
تنهض سيرة رياض سيف على سرد تاريخي شخصي لأحداث ووقائع كان فاعلاً ومتأثراً فيها خلال فترات معينة، وهي تعبّر عن تجربته في الحياة العامة السورية
وكان يأمل في "بناء قاعدةٍ صناعية على مستوى البلاد تكون القاطرةَ للازدهار العام". ولذلك فكر في ترشيح نفسه لعضوية مجلس الشعب، ليس فقط لتعميم تجربته "في الصناعة على كافَّة أنحاء سورية من أجل توفير فرص عمل وبناء اقتصاد ومجتمع متطوّرين ومزدهرين، وإنما أيضا لمحاربة الفساد الذي كان يقف عائقاً في وجه فرص التنمية الحقيقيَّة ويُرهق الصناعيّين ومسار التطور الاقتصادي". وعلى هذا الأساس، خاض انتخابات الدور السادس لما سمّي مجلس الشعب في عام 1994. وبالفعل خاض الانتخابات بنجاح، وحفّزه ذلك على الوفاء لمَن انتخبوه، والتمسّك بما رأه "ضرورياً وصالحاً لخدمة حاجات الناس والدفاع عن حقوقهم".
وعلى الرغم من معرفته بأن ضمان النجاح في الانتخابات التشريعية وسواها يحتاج إلى ضوء أخضر من الأجهزة الأمنية أو السياسية، أو على الأقل ألا يكون المرشَّح معارضاً للنظام، إلا أنه يعتقد بأنه كان من القلائل الذين خرقوا هذه القاعدة، وهذا يلقي ظلالاً على مدى دقة ما يقول، إذ تقف عوامل عديدة وراء ذلك، لعل أهمها أنه جاء من قطاع الصناعة وكانت لديه علاقات، وهو دمشقي، وليس له ماض أو خلفية سياسية، كونه لم يكن منتسباً إلى أي حزب معارض لسلطة الأسد. ومع ذلك، تعرّض إلى ضغوط عديدة، كي يتمّ تطويعه وتدجينه تحت جناح نظام الأسد. ودخل معارك غير متكافئة مع النظام ومافياته الفاسدة، كانت نتيجتها الطبيعية، في نهاية الدور التشريعي السادس، أنه خرج مهزوماً منها، حيث خسر كل ما جناه في حياته، ومرتهناً لديونٍ وضرائب مُفتَعلة. وكانت الخسارة الأفدح فقدان ولده الأصغر في ظروف غامضة وملتبسة في 2 أغسطس/ آب 1996، ويصفها بأنها عملية اغتيال مُدبَّرة من رؤوس الفساد، لثنيه عن معركته ضدهم وضد فسادهم، والانتقام منه، وإرسال رسالة واضحة عمّا يمكن أن يفعلوه به إذا استمرّ في محاربتهم.
ويبدو أن رياض سيف، مثل سوريين آخرين، انطلت عليهم موجة التضليل التي قام بها النظام خلال ترويج بشار الأسد وريثا لوالده، وما رافقها من تضخيم توجُّهاته الإصلاحية، إلى جانب إلحاح أصدقائه. ولذلك قرّر ترشيح نفسه مرة أخرى لخوض انتخابات مجلس الشعب التي جرت في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 1998، ويعتقد أنه نجح فيها، على الرغم من حالات التزوير والتلاعب المؤكّدة، وقيام قيادات حزب البعث الحاكم ومسؤولي الأمن بحملة مركّزة ضده، بغية محاصرته وإفشاله.
تعرّض سيف إلى ضغوط عديدة، كي يتمّ تطويعه وتدجينه تحت جناح نظام الأسد. ودخل معارك غير متكافئة مع النظام ومافياته الفاسدة
وبعد تزايد المضايقات والخسارات التي تعرض لها من النظام، قرّر سيف بيع حصته في شركة أديداس في 1999، و"التفرّغ للشأن العام والخوض في القضايا الهامة التي تُؤثر على حياة السوريين، وتمسُّ كرامتهم ومستقبل أولادهم وتحفظ البيئة والثروة الوطنية. ومنها قضية عقود الهاتف الخلوي الذي يُفترض أن يوفر دخلاً هاملاً لخزينة الدولة. إضافة إلى حاجة سورية إلى "بناء صناعة متطورة توفر فرص عمل شريف وتكون قاطرة للاقتصاد". وكانت أخطر القضايا التي تصدّى لها، وكشف خيوطها السرية صفقة عقود الخلوي التي مثّلت أكبر قضية فساد في سورية في ذلك الوقت، حيث منحت شركاتٌ أجنبيةٌ امتياز إدارة مرفق عام تملكه الدولة واستثماره، يتمثل في استثمار التردُّدات. وكان المستفيد الأكبر هو رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد، بوصفه أهم المُتربّعين على قمة هرم المافيا الاقتصادية التي كانت تحكم سورية آنذاك، ومكّنه موقعه من الالتفاف على الدستور، وإتمام الصفقة بسرية مطلقة.
ويذكر رياض سيف أن الخوف كان يسيطر على رئيس مجلس الوزراء في تلك الفترة، محمود الزعبي، من تمرير تلك الصفقة كما تدل الوثائق، إذ لم يكن موافقاً على اختيار طريقة الـ "بي أو تي" في التعاقد (بناء المشروع واستثماره سنوات ثم إعادته إلى الدولة). وقد أشاع النظام زوراً أن الزعبي وافق على هذا الخيار، وتمّت إقالة حكومته في اليوم نفسه الذي تم فيه تلبيسه التهمة، الأمر الذي يثير الشكوك في مسألة انتحاره بعد ذلك.
كان فضح رياض سيف صفقة الخلوي من أسباب اعتقاله الرئيسية عام 2001
كان فضح رياض سيف صفقة الخلوي من أسباب اعتقاله الرئيسية عام 2001، إذ قبل ثلاثة أسابيع من دخوله السجن للمرة الأولى، زاره أحد أصدقائه وصارحه بأنه مُرسل من محمد مخلوف (والد رامي مخلوف) ليسأل عن مطالبه مقابل التوقف عن التطرُّق إلى صفقة الخلوي، واقترح عليه أن يقدم له 500 مليون ليرة ( 10 ملايين دولار وقتها)، و"يمكنه استلامها في أيّ مكان يرغبه مع حِفظ ماء الوجه"، أي يمكنه أن يبقى معارضاً من دون أن يمسَّ محمد مخلوف شخصياً. وكان جواب سيف توزيع آلاف النسخ من دراسته التي تفضح الفساد في صفقة الخلوي.
ربيع دمشق
يروي رياض سيف بعض أحداث فترة ربيع دمشق بين عامي 2000 و2001، التي عاش فيها المجتمع السوري، وخصوصا نخبه الثقافية والسياسية، ورشةً جدِّية من النقاش حول مختلف القضايا العامة، لم يشهد لها تاريخ المجتمع مثيلاً، إذ بعد موت حافظ الأسد، أراد النظام تمرير مناخٍ من الانفتاح، بغية التمهيد لوصول بشار الأسد إلى سُدَّة الحكم بأقل ردود أفعال شعبية وثقافية وسياسية، والإيحاء بأن عهداً جديداً من الإصلاحات قد بدأ في تلك المرحلة. وقد استثمر المثقفون والناشطون السياسيون السوريون هذا المناخ، وخصوصا أن بعضهم قد صدّق ما ورد في خطاب قَسَم بشار، للدفع باتجاه إيجاد فضاءات للتعبير الحر والمسؤول، وذلك على الرغم من الامتعاض من مسرحية توريثه السلطة.
وتشكّلت في بدايات ربيع دمشق جمعية "أصدقاء المجتمع المدني"، من مجموعة من المثقفين والناشطين السياسيين، حيث يروي سيف أنه، قبل أربعة أيام من موعد اجتماع لإقرار البيان التأسيسي للجان، تلقى دعوة في 30 أغسطس/ آب 2000 لزيارة النائب السابق لبشار الأسد، عبد الحليم خدّام في منزله، حيث نقل خدام له رغبة بشار باستعادة أمجاده الصناعية، كما أبلغه طلب بشار تزويده بتقرير مُفصَّل عن حجم الخسائر التي تكبدها نتيجة تلك المعاملة الكيدية، وإيصاله له عن طريق خدّام نفسه. وجرى اجتماع 3 سبتمبر/ أيلول 2000 كما كان مقرَّراً له، وتمت الموافقة على الصياغة النهائية لبيان "جمعية أصدقاء المجتمع المدني". واتفق المؤسسون على تكليف رياض سيف بإعلام عبد الحليم خدّام، ورئيس فرع الأمن الداخلي اللواء بهجت سليمان، ببيان التأسيس، كي يطلب منهما المساعدة في الحصول على ترخيص لهذه الجمعية. ويبدو أن سليمان كان على علم كامل بكل ما دار في اجتماعات التأسيس، وأنه كان يتوقع زيارة سيف، وأبلغه رفضه القاطع لقيام مثل هذه الجمعية. كما أن خدّام أبلغه بأن "هذه ليست جمعية، هذا بلاغ رقم واحد لانقلابٍ تخطّطون له تحت يافطة المجتمع المدني، وهو أمرٌ لا يمكن أن يتمّ". ومع ذلك، قرّر مؤسسو الجمعية ضرورة أن تُتابع نشاطاتها من دون ترخيص، لكن سيف قرّر افتتاح منتدى للحوار الوطني في منزله، وأن تقام جلسات حوار أسبوعية، تبدأ بطرح موضوعات خاصة بثقافة المجتمع المدني.
ومن المعالم البارزة في ربيع دمشق إصدار مجموعة من المثقفين والناشطين "بيان المثقفين الـ 99" في 27 سبتمبر/ أيلول 2000 ثم "بيان الألف" في بداية عام 2001، اللذيْن وجّها نقداً علنياً للنظام، ودعوا إلى التغيير الديمقراطي. وفي أعقاب ذلك، تشكلت "لجان إحياء المجتمع المدني"، وانتشرت ظاهرة المنتديات الحوارية في أرجاء سورية، وأسّس رياض سيف "منتدى الحوار الوطني" في 13 سبتمبر/ أيلول 2000، ثم خطا خطوةً نحو مشروع تأسيس حزب سياسي، معتقداً أن "عدداً من المثقفين وأساتذة الجامعة والسياسيين المُخضرمين سيكون متحمّساً للفكرة"، وسوف يساعدونه في إنجاز هذا المشروع، لكن أمله خاب. ومع ذلك ناقش ورقة المبادئ الأولية لمشروع الحزب الذي حمل اسم "حركة السلم الاجتماعي" مع الحاضرين في جلسة "منتدى الحوار الوطني" في 31 يناير/ كانون الثاني 2001.
كان النظام دوما بالمرصاد للخطوات التي كان يقوم بها رياض سيف وأترابه
وكان النظام بالمرصاد للخطوات التي كان يقوم بها رياض سيف وأترابه، فقرّر رئيس مجلس الشعب الموافقة على رفع الحصانة عنه، ثم مثل أمام قاضي التحقيق الأول بدمشق، ووجَّه إليه "تُهماً بجرم الاعتداء الذي يستهدف تغيير الدستور بطرقٍ غير مشروعة، وإثارة النَّعرات المذهبية وتشكيل جمعيةٍ سريةٍ لأغراض مخالفة للقانون، وتولي منصب رئيسها، وعقد اجتماعات مخالفة للقانون".
وفي 7 سبتمبر/ أيلول 2001 تمّ توقيفه في سجن عدرا، بِناء على أمر من الحاكم العُرفي، ثم صدر حُكم بسجنه خمس سنوات، في 3 أبريل/ نيسان 2002 مع الحَجر والتجريد من الحقوق المدنية. كما جرت حملات اعتقالات عديدة لناشطين كثر في تلك الفترة، وسجن عدد منهم سنوات عديدة.
السجن وإعلان دمشق
امتدت فترة السجن أربع سنوات ونصف السنة تقريباً، وقرّر رياض سيف فيها الاستفادة صحّياً وثقافياً، بممارسة الرياضة والإقلاع نهائياً عن التدخين، ودراسة اللغة الإنكليزية وقراءة منظمة ومُمنهجة لكتب في السياسة والتاريخ. وخلال وجوده في السجن، أصدر سياسيون وناشطون وثيقة "إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي" في 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2005، والتي أعلنت قيام تحالف بين أحزاب وشخصيات سورية عديدة، ووقع عليها بصفة مُستقل. وقبل خروجه من السجن، طلبت سلطات النظام منه توقيع تعهّد يعترف بأنه كان على خطأ وكان مُذنباً، لكنه رفض وخرج من السجن أكثر تصميماً على الكفاح من أجل الحرية. ثم واصل نشاطه السياسي ضمن أطُر إعلان دمشق، مقرّراً "العمل على جعله وازناً عبر عقد مجلسٍ وطني، أو مؤتمر عام، يُكسب الإعلان حضوراً مُعتبراً، ومزيداً من المصداقية والشرعية أمام الشعب السوري والعالم".
لم تتقبل سلطات الأسد نشاطات رياض سيف، وسارعت أجهزة الأمن إلى استدعائه بشكل متكرّر، وتهديده وتحذيره من مواقف وتصريحات أعلنها
ولم تتقبل سلطات الأسد نشاطات رياض سيف المتنوعة، حيث سارعت مختلف أجهزة الأمن إلى استدعائه بشكل متكرّر، وتهديده وتحذيره من مواقف وتصريحات أعلنها في الصحافة، وراقبت علناً تحرّكاته، وضيقت نشاطاته في العلاقة مع أوساط إعلان دمشق، ومع وسائل الإعلام، كما حاصرت أسرته، وقامت بإرهاب وسطه العائلي والاجتماعي. واعتقلت سلطات نظام الأسد سياسيين وناشطين سوريين، لتوقيعهم على وثيقة إعلان "بيروت - دمشق/ دمشق – بيروت" في 12 مايو/ أيار 2006، التي طالبت بإبراز الروابط التاريخية بين البلدَين، وبوقف أساليب الوصاية والعنف والاغتيالات التي طاولت شخصياتٍ من المعارضة اللبنانية وفي بريطانيا. فتشكلت "جبهة الخلاص" من تحالف جماعة الإخوان المسلمين في سورية مع عبد الحليم خدّام، النائب السابق لبشار الأسد وأحد رموز الفساد والاستبداد في سورية. ولم ينسق "الإخوان" مع أطراف إعلان دمشق الذي كانوا جزءاً منه. وعقدت هذه الجبهة مؤتمرها التأسيسي في لندن في 5 يونيو/ حزيران 2006. وفي 9 يناير/ كانون الثاني 2009، جمَّد الإخوان المسلمون معارضتهم النظام السوري في أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة. ويخلص سيف من ذلك إلى "عدم التعويل على الإخوان المسلمين كحليف سياسيٍ حقيقي لبناء نظامٍ ديمقراطي، مع الاستمرار بدعم جهود المنظمات المدنية والحقوقية لإلغاء القانون رقم 49 لعام 1980 المتعلق بالإخوان المسلمين"، لكن تجربته في الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة تؤكّد عدم التزامه بذلك.
ويروي رياض سيف أنه على الرغم من توافقه مع موقف إعلان دمشق من العلاقة مع الخارج، إلا أنه كان يشجّع دوماً "على الانفتاح على العالم، وإيجاد التقاطعات مع سياسات الدول التي نُنسّق معها في القضايا التي تَخدم مصالحنا كشعب، وأهداف إعلان دمشق كجزء حيوي من هذا الشعب يُعبّر عن تطلعاته وتوقه للحرية". وقد شكلت العلاقة مع الخارج قضية خلافية داخل قيادة الإعلان بين تيار ليبرالي، تُمثله مجموعة "ربيع دمشق"، والإسلامِيين المستقلّين وقوى كردية وآشورية وحزب الشعب الديمقراطي وبعض أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي، وتيار قومي يساري، يُمثله أحزاب الاتحاد الاشتراكي والعمل الشيوعي واليسار الكردي. أما "تمويل الإعلان فكان ذاتياً بشكل مطلق من الاشتراكات والتبرّعات للأعضاء والأحزاب المنضوين فيه".
نشرت صحيفة واشنطن بوست في 20 أبريل 2011 أن الخارجية الأميركية حوَّلت نحو ستة ملايين دولار منذ 2008 لصالح منفِيّين سوريين من أجل إطلاق قناة تلفزيونية لصالح قوى المعارضة
ويروي رياض سيف ما دار بينه وبين موظفين ومسؤولين أوروبيين وأميركيين، حيث يذكر أنه في أواخر عام 2006 التقى في مكتبه في دمشق موظفا كبيرا في السفارة الأميركية، وأبلغه قرار الإدارة الأميركية تخصيص مبلغ لدعم المعارضة السورية، وسألَه عن احتياجاتها. وبعد التشاور مع سياسيين مقرَّبين منه، "استقر الرأي مطلع عام 2007 على أن ما تحتاجه المعارضة هو قناة فضائية لإيصال صوت المعارضة للسوريين في الداخل والخارج، ولكسر الحصار المفروض عليها من قِبل أهم القنوات العربية". وحين سئل عن الجهة التي يثق بها والمتابعة معها لإنجاز هذا المشروع، قام بترشيح "حزب العدالة والبناء" المسجّل في لندن، وكان عضواً في إعلان دمشق، وتولى مشروع تنفيذه كل من أنس العبدة وأسامة المنجد، اللذان أرسلا خمسة آلاف دولار إلى رياض سيف، بعد أشهر من اعتقاله ثانية في يناير/ كانون الثاني 2008 عن طريق ابنته، لكنه أخبرها رفضه المبلغ. وحين تكرّر إرسال المبلغ نفسه ثانية، طلب منها أن تتصل بكل من المنجد والعبدة، من قيادة حركة العدالة والبناء، لتشكر كلا منهما على حدة، ما قدَّماه، والاعتذار عن قبول أي مبالغ إضافية". وفي أثر تسريبات "ويكيليكس"، نشرت صحيفة واشنطن بوست تقريراً في 20 أبريل/ نيسان 2011، يفيد بأن الخارجية الأميركية حوَّلت نحو ستة ملايين دولار منذ 2008 لصالح منفِيّين سوريين من أجل إطلاق قناة تلفزيونية لصالح قوى المعارضة تبَثُّ من لندن سُميتْ "قناة بردى"، التي بدأت بثها في أبريل/ نيسان 2009.
ويذكر رياض سيف أنه، بعد خروجه من سورية، اجتمع بأنس العبدة، أمين عام حركة العدالة والبناء، وطلب منه "معلومات واضحة عن موضوع قناة بردى، فأقرَّ بأنه تلقَّى ستة ملايين دولار من جهات أميركية لإطلاق قناة فضائية، وُزعت حسب قوله إلى قسمين: ثلاثة ملايين دولار لتجهيزات اشترتها مؤسسات أميركية، وثلاثة ملايين دولار أخرى استلَمها العبدة وأنفقها، حسب قوله لتَغطية، تكاليف التأسيس والتشغيل"، لكن موضوع القناة أثار مسألة عدم شفافية كل من العبدة والمنجد، حسب روايات ناشطين وسياسيين سوريين.
خلافات الإعلان
مع تراجع تفكير رياض سيف في "عمل حزبي مستقل، راح يعمل ضمن أطر إعلان دمشق، لجعله وازناً عبر السعي إلى "عقد مجلس وطني أو مؤتمر عام يُكسب هذا الإعلان، حضوراً مُعتبراً، ومزيداً من المصداقية والشرعية أمام الشعب السوري والعالم"، لأن مثل هذا المؤتمر سوف يُعزّز الشرعية التعاقدية لهذا التجمع السياسي ويُوسّع المشتركات، ويمد الهيئات السياسية القيادية بالرُّؤى والتصورات والطاقات".
وقد عقد اجتماع المجلس التأسيسي لإعلان دمشق في 20 فبراير/ شباط 2007، بحضور عدد من أعضائه، المجلس الوطني للإعلان، وتوافقوا على تشكيل أمانةٍ عامةٍ ولجان للمحافظات وأخرى للخارج، وعلى عقد مؤتمر وطني. وبعد سلسلة طويلة من الاجتماعات، "استغرَق التحضير للمجلس الوطني لإعلان دمشق نحو سنة ونصف السنة تقريباً، من الشهر السادس 2006 إلى 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2000. وكان جوُ الاجتماعات إيجابياً، بوجه عام، تتخلَّله مشاحنات بين رياض الترك وحسن عبد العظيم، بين الحين والآخر". وعُقد المجلس الوطني الموسَّع في الأول من ديسمبر/ كانون الأول 2007، وجرت انتخابات الأمانة العامة التي انتخبت بدورها هيئتها الرئاسية المُكوَّنة من خمسة أعضاء، ثم انتخبت هيئة الرئاسة رياض سيف رئيساً لها.
لم تتضمن المذكرات نقداً أو تقييماً أو مراجعة لدور كاتبها وأدائه أو أدوار سواه وأدائهم في المشهد السياسي السوري المعارض
وبعد أقل من أسبوعٍ على انعقاد المجلس، فوجئ أعضاء من إعلان دمشق بإصدار حزب الاتحاد الاشتراكي في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2007 بيان تجميد نشاطه في الإعلان "مدَّعياً وجود خلافات عميقة سياسية ومنهجية مع قوى الإعلان الليبرالية، وحذا حذوه في اليوم التالي حزب العمل الشيوعي وأصدر بيان تجميد لنشاطه في الإعلان أيضاً".
ولم تتأخر أجهزة الأمن السورية في مختلف المحافظات عن ملاحقة واستدعاء أعضاء من قيادات إعلان دمشق، إذ قامت في 9 ديسمبر 2007 بتوقيف 46 ناشطاً ممن حضروا اجتماع المجلس الوطني، وأطلقت سراح 34 منهم بعد فترات تتراوح بين عدَة ساعات وعدة أيام، فيما جرى اعتقال 12 عضواً من القيادات المنتخبة أو المشاركين الفاعلين في المجلس، وجرت محاكمتهم والحكم عليهم بمدة سنتين ونصف لكل منهم. ويبدو أن ناشطي إعلان دمشق نسوا أنهم يعيشون في دولة الاستبداد والديكتاتورية الأسدية، والأرجح أنهم لم ينسوا، لكنهم أرادوا تسجيل موقف، والتعبير عن حقهم الطبيعي في المشاركة بالحياة السياسية مهما كان الثمن.
واعتقل رياض سيف في 29 يناير/ كانون الثاني 2008، ووجهت له التهم نفسها التي اعتاد نظام الأسد توجيهها للمعارضين، "وهي الانتساب إلى جمعية سرّية بقصد تغيير كيان الدولة السياسي والاقتصادي ونشر أخبار كاذبة من شأنها أن تُوهن نفسية الأمَّة وإضعاف الشعور القومي وإيقاظ النعَرات العنصرية والمذهبية والنَّيل من هيبة الدول". ويروي رياض سيف أنه حين دخل السجن، والتقى بزميله المعارض ميشيل كيلو، وروى له ما جرى عند انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق، فوجئ بردَّة فعله الغریبة، حين قال "إنَ الإعلان خُطف، وأنه هو من كتبه وأسَّس له، والآن يقفز كل واحد ويدَّعي أنه هو الذي عمل وهو الذي أنجز"، فأجابه سيف بأن "لا أحد یُنكر أن میشیل كیلو وجورج صبرا وآخرين ساهموا بتأسيس الإعلان"، "ولكن هذا لا يعني أن يبقى الإعلان حكراً على من كتبه، لأنه ملكٌ عام وإنجازٌ وطني وليس قضية شخصية". وبعد ذلك سار كل منهما في طريق مختلف.
وخرج رياض سيف من السجن في أواخر يوليو/ تموز 2011، بعد أن قضى فيه عامين ونصف العام، في ظروف قاسية جداً وغير إنسانية، وقد تعاون المرض والمُعاناة للنَّيل منه، حيث شعر بأنه بات غير قادر على العطاء وقيادة المجلس الوطني لإعلان دمشق، لذلك أعلن استقالته منه، وبذلك أسدل الستار على مرحلة صعبة ومهمة وغنية من مساره السياسي.
والحاصل أن رياض سيف قدم، في سيرته، روايته لدوره في الشأن العام السوري خلال مرحلة معينة، ويريد لها أن تقدّم شهادة للتاريخ. ولم تتضمن نقداً أو تقييماً أو مراجعة لدوره وأدائه أو أدوار سواه وأدائهم في المشهد السياسي السوري المعارض، بل تضمّنت روايته عن أحداث هامة جرت في سورية، ويأتي فيها على تبيان أدواره ومواقفه وأدائه فيها، وشاركت في تلك الأحداث شخصيات سياسية وثقافية ومدنية عديدة، لعبت أدواراً مهمة فيها. لذلك فالباب مفتوح أمام تلك الشخصيات لتقديم روايتها التي قد تتفق أو تختلف مع رواية رياض سيف، وبما يفتح نقاشاً عاماً عن تلك المرحلة والمراحل التي لحقتها أو سبقتها، بغية إغناء المشهد وتناوله من مختلف الجوانب. ولعل من يقرأ سيرة رياض سيف سينتظر قراءة الجزء الثاني للسيرة، الذي عليه أن يحكي عن مرحلة الثورة السورية وتشكيل هيئات المعارضة السياسية وكياناتها التي يقال في شأنها الكثير.