شباب تقتلهم "الصحراء المُلهمة"

19 يوليو 2024

(فاتح المدرس)

+ الخط -

أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2014 يوم 15 يوليو/ تموز يوماً عالميّاً لمهارات الشباب، احتفاء بالأهمية الاستراتيجية لتزويد الشباب بالمهارات اللازمة لتوظيفهم ولتمكينهم من الحصول على العمل اللائق، فضلاً عن تمكينهم من ريادة الأعمال. هذا ما تعلنه.

تجري الاحتفالية لهذا العام 2024 تحت عنوان "مهارات الشباب من أجل السلام والتنمية"، في وقتٍ تعاني فيه مناطق عديدة الحروب والفوضى والانهيارات المجتمعية والفقر وانعدام الفرص وغيرها من المشكلات العميقة، ومنها على وجه الخصوص منطقتنا العربية، السودان، اليمن، سورية، الصومال، لبنان، وفي قلبها قطاع غزّة. ويركّز العنوان على الدور الحيوي الذي يلعبه الشباب في بناء السلام وتسوية النزاعات التي تعطّل التعليم والاستقرار. وفي الواقع، هي لا تعطّل التعليم فحسب، على خطورة هذا التعطيل، بل تعطّل الحياة كلّها.

تعيد هذه المناسبة كلّ مشاهد "الفتك" التي تمارس بحق الشباب والأطفال السوريين، فلا يبقى احتمال أن ينشأ جيل قادر على النهوض ممكناً. جديدها أخيراً مجموعة الشباب السوريين الذين قتلتهم صحراء الجزائر. لقد تفنّنت الطبيعة بقتل أبناء هذه الشعوب المغلوبة على أمرها، لم يرحمهم البحر ولا النهر ولا الغابة ولا الصحراء، كل الدروب كانت تودي بهم إلى طاحونة الموت. وتعيدنا المشاهد نفسها إلى الأدب أيضاً، إلى المعنى الذي ينبشه من قلب الأشياء، لكن الحياة لا تختار دائماً من المعاني أجملها، ومن الأقدار أكثرها إنصافاً وعدلاً ورحمة.

الصحراء قاتلة، وآخر قتلاها شباب سوريون هاربون من الموت

في رحلته إلى صحراء تمنراست في جنوب الجزائر، مسكوناً حدّ الامتلاء بالأسئلة الوجودية، عاش الكاتب الفرنسي، إريك إيمانويل شميث، التجربة في صحراء الطوارق متحرّراً من أي أحكام قيمة مسبقة، دوّنها في روايته "ليلة النار" (ترجمة لينا بدر، دار مسكيلياني، تونس، 2017). كان يريد من الصحراء أن تمدّه بتجربة التأمل التي تمنحها الصحراء بما تمتلك من فائض الحرية، فشعر بقربه من الله، الله الكوني الذي "يقتلون باسمه" بينما هو بريء من جرائمهم، فأحبّاء الله هم فقط أولئك الذين يبحثون عنه، وليس الذين يتحدّثون باسمه مدّعين العثور عليه.

هكذا هو الأدب، يورّطنا في عشق الأشياء، بل نرفعها أحياناً إلى منزلة القداسة، ومنها الصحراء التي تشكّل في بعض النصوص الإبداعية بطلًا للسرد، أو فتنة الشعر، الصحراء ملهمة للمبدعين. إنها تسمو إلى مقام الرمز، فتصبح الملهمة على الرغم من قساوتها، الرحيمة على الرغم من جبروتها، الساحرة على الرغم من قحطها، لكنها قاتلة لمن لا يعرفها. بلى، هي قاتلة، آخر قتلاها أولئك الشباب السوريون الهاربون من الموت، يطبطبون على أحلامهم التي كلّما هزمتها الوحشة، وأوشكت على أن تتحوّل إلى كوابيس، حضنوها كي لا تموت فيموت لديهم ما تبقّى من قدرة على الصراع مع القدر، قدرهم الذي كشّر في وجوههم وبانت أنيابه وهم في أحضان وطن يشيخ حتى صار بلا ذاكرة، وطن مصاب بالخرف، بعدما تجرّع السمّ على مدى عقود من سلاطين التوحّش والجريمة، سلاطين السياسة والدين، فتحالفوا مع شياطين العالم وفتحوا لهم أبواب البلاد كلها تضرم نار جهنم فيه فلا تبقي ولا تذر.

بات العالم بالنسبة إلى معظم شبابنا مجهولاً مخيفاً يخفي الحياة في عتمته، فيركبون الأخطار من أجل هذه الحياة التي هي من حقّهم البديهي من دون أي نقاش

هل هذه الصحراء التي عشقناها من وراء الأدب والإبداع، هي نفسها من يقتل الشباب الهاربين من مصيرهم بحثًا عن مصير مجهول؟. ... هذه المغامرة التي يقوم بها شبابٌ فقدوا أي أمل في بلدانهم، هي مقامرةٌ يذهبون بها إلى أقاصيها، هي محاولة انتحارٍ غير معلن، ما دام أن كثيرين سبقوهم في هذه الدروب، فقنصت أرواحهم وابتلعت أحلامَهم فحوّلتها إلى كوابيس لم يصحوا منها. ومع هذا، يندفع الشباب، ومنهم من لم يغادر الطفولة بعد، إلى ارتيادها غير مسلحين بشيءٍ ضد مجهول يتربّص بهم.

عن أي شبابٍ تتحدّث هيئة الأمم المتحدة، أم أن شباب العالم مقسّمٌ إلى فئات وطبقات؟ إذا كانت بلدان الشمال العالمي، في غالبيتها، تعاني من شيخوخة مجتمعية، فإن لدى بلدان جنوب العالم فائضا من الشباب من دون طموح أو عمل أو أمل.

كانت تجربة الصحراء، بكل قسوتها ووحشيتها، بين ليلها ونهارها، معينًا كبيرًا للكاتب إريك إيمانويل شميث كي تصل به إلى نقطة الذروة في القلق الوجودي والسؤال عن الله. أمّا شبابنا الذين يبدو العالم غير مكترث بهم، إلّا بمن يصل إليهم وفق قانون "البقاء للأقوى"، فهؤلاء الذين يجتازون الأخطار في طريق تغريبتهم باتجاه العالم "المتحضّر"، العالم المتعالي على ما يبدو على آلام الشعوب في جنوبه، شبابنا يبحثون عن الله، بل يتكلون عليه، ويضمرونه في قلوبهم في دربهم إلى الجلجلة.

عن أي شبابٍ تتحدّث الأمم المتحدة، أم أن شباب العالم مقسّمٌ إلى فئات وطبقات؟

تزيد التحدّيات التي تواجه شبابنا السوري (وغيرهم من العرب) في ظلّ الصراعات في دورات العنف وعدم الاستقرار. يدعو الهدف الرابع في خطّة التنمية المستدامة للعام 2030 إلى ضمان التعليم الجيد والمنصف والشامل للجميع، وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة للجميع، فهل شباب المناطق المشتعلة مشمولون بهذه الخطّة؟ فهم لا تأهيل تعليميا أو مهنيا لديهم، وإن وجد فليس أمامهم فرص عمل في بلدانهم التي تُعاني من أزماتٍ متفاقمةٍ وانهيارات على كل الصعد. كان على الشباب السوري ممن بقي في الداخل، عدة سنوات خلت، أن يحمل السلاح، أو أن يكبُر خارج المدارس، في المخيّمات، في دول لجوء يسامون فيها انتهاك الكرامة، وها هو التضييق يزداد عليهم أخيراً، حدّ تأليب شرائح كبيرة من مجتمعات دول اللجوء ضدهم. هذا بالنسبة إلى السوريين، وقبلهم العراقيون، ومثلهم اليمنيون، والقائمة مفتوحة، والمأساة تتفجر اليوم بصورة كارثية في السودان. وأما في دول عربية أخرى، أو غيرها من دول تعاني ظروفًا مشابهة، كبعض دول الشرق الإفريقي ومنطقة الساحل، فالأفق مسدودٌ أمام جيل الشباب، ولذلك صار الموت في سبيل الوصول إلى أوروبا أو دول شمال العالم قيمة تعلو كل القيم بالنسبة إليهم، حلماً يعادل الحياة.

أمام هذه التناقضات الفاقعة، والمفارقات العجيبة، لا يستطيع المرء ألًا يتساءل عن جدوى المنظمّات الدولية، وفي مقدّمتها هيئة الأمم المتحدة، إذا كانت غير قادرة على لعب دور مؤثّر في معالجة المشكلات المتفاقمة من جذورها، بالدفع باتجاه منع أسبابها ومنع تغوّلها؟

في عالم يسير باطراد نحو ما بعد الإنسانية، يجنح نحو منح نفسه للذكاء الاصطناعي، تضع هيئة الأمم المتحدة نصب عينيها تأهيل الشباب من أجل خدمة (وإدارة) هذا العالم المقبلين عليه، لا مكان لشبابنا، وبالتالي، لا مكان لنا في مستقبل هذا العالم، بل ستزداد مشكلاتنا وتزداد تبعيّتنا ويزداد فقرنا وتنغلق الآفاق أكثر في وجه الأجيال الجديدة. هذا ليس كلاماً عاطفيّاً، ولا تَذكّر الأدب والإبداع في لحظة كهذه لحظة عاطفية، إنها تأمّل، إنما تأمّل العاجز عن فعل شيء، وشكل من مقاومةٍ فرديةٍ ليس أكثر، في وجه هذا الكمّ الهائل من الضلال والتضليل الذي يُمارسه علينا عصر الميديا، حتى بتنا غير قادرين على تلمّس جلدنا لنعرف إن كنّا نعيش أم في عداد الأموات، فأمام هذا الكم الهائل من المنصّات، والطوفان من التحليلات، بتنا كالممسوسين لا نعرف كيف نفكّر ولا أين نتجه. وبات العالم بالنسبة إلى معظم شبابنا مجهولاً مخيفاً يخفي الحياة في عتمته، فيركبون الأخطار من أجل هذه الحياة التي هي من حقّهم البديهي من دون أي نقاش.