شرعية الأسد: منحة دولية أم نتيجة فعالية داخلية؟
الأصل في شرعية أي نظام سياسي مقبولية المحكومين له، وهذه تتأتّى من فعاليته، التي بدورها حصيلة أدائه على أكثر من مستوى وقطاع، في مقدمها: تأمين الحماية والأمن للمحكومين، وتوفير الخدمات الأساسية والسلع الضرورية، بالإضافة إلى اعتباراتٍ معنويةٍ من نوع حفظ كرامة المواطنين بالابتعاد عن الاستبداد ومحاربة الفساد. .. وهذه قواعد معيارية للشرعية معروفة في كل زمان ومكان، تكاد تتفق عليها أغلب النظريات السياسية، والاختلاف أحيانا في ترتيب مصادر الشرعية، وليس في طبيعتها. وبناء على ذلك، أساس الشرعية داخلي، ودور المجتمع الدولي هو المصادقة على خيارات الشعوب وقراراتها، حتى الشرعية الثورية التي سادت في فترة معينة، وهي شرعية الانقلابات، جرى إخضاعها لقاعدة الفعالية، بمعنى أن الانقلابيين إما قدموا خدماتٍ لقيت صدى إيجابيا لدى قطاعات واسعة من المواطنين، أو قاموا بتغييرات كان لها مفعول مهم في تطوير المجتمع وتغييره، واستحقّوا، بناء عليها، الشرعية الدولية، وإنْ بحذر أحياناً كثيرة.
ما الذي يمتلكه بشّار الأسد من هذه المواصفات حتى يجري الحديث عن شرعنته، أو إعادة شرعيته، التي لم تكن في الأصل موجودة إلا بوصفها شرعية أمر واقع؟ الغرض مما يجري الآن من حراك باتجاه نظام الأسد بناء شرعية لا يستحقّها، فجميع المعطيات السورية تؤكّد، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الأسد صانع الخراب الذي يحكمه ويتربّع على عرشه، وأن سورية تحوّلت، بالفعل، إلى نموذج بشع للدولة الفاشلة، وهو نموذجٌ غير مسبوق في التاريخ.
المفارقة في حالة نظام الأسد أنه نفسه تخلّى عن شرعيته الواقعية بملء إرادته وبوعي كامل منه، رفض إدارة الأزمة التي واجهته، والممثّلة بالثورة الشعبية ضدّه، بالمنطق السياسي، لم يبال بمسألة الشرعية، بل وضعها على الرفّ، لاعتقاده أن الأولوية للقضاء على الثورة الشعبية، وأنه يفضّل أن يكون نظاماً مارقاً على أن يُقدّم تنازلاتٍ للثائرين عليه تحدّ من سلطاته وتكبّل يديه في حكم البلاد، ولم يكن ذلك مخطّطاً سرّياً، بل كشفت عنه مستشارة الأسد، بثينة شعبان، منذ بدايات الثورة، حينما سُئلت عن تأثير الإدانات الدولية على النظام، قالت إن المهم الآن إنهاء هذه الأوضاع ثم سنجد الطريقة لتغيير الصورة.
لن تقف المسألة عند حد فتح قنوات تواصل مع عصابة الأسد، بل يستلزم الأمر إعادة بناء رواية جديدة للحدث السوري
إذاً، هذا النظام الذي تحوّل إلى عصابة، وكان ذلك من مستلزمات القضاء على الثورة، هل يواري سكاكينه خلف ظهره ويقدّم للعالم يدا بقفّازات حريرية تغطي آثار دماء الشعب السوري؟ المشكلة لا، ما زالت العصابة على السلوك نفسه ويستحيل أن تتغير، ما زالت تقتل في شمال سورية الأطفال، وفي جنوبها تغتال معارضيها وتتاجر بالمخدرات، وفي جميع أنحاء سورية تقتل، في أحيان كثيرة على الهوية، داخل سجونها كل من تشكّ بمعارضته لها، حتى إنها لا تكلف نفسها عناء التخفيف من ممارساتها الإجرامية ليستطيع الآخرون تجميل صورتها، أو على الأقل جعلها مقبولةً في الأوساط الخارجية.
تستند عصابة الأسد في إصرارها على موقفها الغريب هذا، على معطيين، تعتقد أنها يحكمان المعادلة السورية الحالية، ويشكّلان أساسا لمقاربة الأطراف الخارجية. الأول: انعدام البدائل الوطنية، بسبب اجتثاث القوى المدنية والسياسية، أو بسبب تشرذم المعارضة وضعفها وانعدام فعاليتها على جميع الصعد، وظهورها مجرّد ذراع لتركيا. الثاني: اضطرار العالم الخارجي الرضوخ للواقع الراهن في سورية عبر المفاضلة بين الأسوأ والأقل سوءا للمصالح الإقليمية والدولية.
ولكن المسألة لن تقف عند حد فتح قنوات تواصل مع عصابة الأسد، بل يستلزم الأمر إعادة بناء رواية جديدة للحدث السوري، إذ يصعب على العالم الخارجي الاعتراف بالهزيمة أمام نظام رفض جميع مطالب البيئتين، الإقليمية والدولية، وأجبرهم، في النهاية، على التعاطي معهم، سواء لأنهم وجدوا انه قد يحقّق مصالحهم، بطريقة أو أخرى، أو لأنهم يريدون الخروج من وضع مأزقي لم يستفد منه أحد.
مئات المنابر للمعارضة ليست سوى تجمّعات استعراضية، وربما كيدية، في مواجهة منابر أخرى
بناء الرواية أيضا ضرورة لإدماج نظام الأسد في النظامين، الإقليمي والدولي، وتفكيك قوائم العقوبات ضده، وهذا يعني تحويل الصراع إلى مجرّد تمرّد وتحويل الارتكابات إلى مجرّد أخطاء صغيرة، وإذا كان من الصعب تصديق رواية العصابة، فقد يتم اللجوء الى اعتبار كل الروايات خاطئة، على اعتبار أن الظرف الذي صيغت فيه الروايات كان استثنائيا، ويستحسن عدم التوقف عنده. لكن ماذا عن نتاج هذه الروايات، ماذا عن ملايين القتلى والمهجّرين والمعاقين ودمار نصف البلاد، أليست هذه وقائع من دم وأجساد وعمران؟ أليست هذه تفاصيل الرواية ومداميكها؟
هل يملك الطرف الآخر، المعارضة السياسية، والنشطاء والمجتمع المدني، وجيوش الإعلاميين في الخارج التأثير على الحراك الهادف إلى صناعة شرعية للأسد؟ الواقع أن جميع الأطراف التي تسعى إلى شرعنة الأسد تُقبل على هذا الأمر بخفر، ولا تبدي اندفاعا صريحا لهذه المهمة. ومن المؤكّد أن إدراكها قذارة العصابة المارقة هو ما يخفّف من اندفاعها، لكن المشكلة أيضا أن الطرف المقابل، والمقصود به المعارضة، بائس إلى حدود غير معقولة، إلى درجة أن الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية عقد من المشاورات والاجتماعات بهدف استرجاع مخصصاته المالية أكثر بكثير مما صرفه من وقت لمواجهة التحولات الخطيرة في الملف السوري، كما أن مئات المنابر للمعارضة ليست سوى تجمّعات استعراضية، وربما كيدية، في مواجهة منابر أخرى.