شعب خوزستان يريد ماءً لا دماءً
لجأ النظام الإيراني، كعادته، إلى العنف لمواجهة حركة الاحتجاج التي بدأت منذ أكثر من أسبوع في محافظة خوزستان (الأهواز) في إيران، على الرغم من أنها احتجاجاتٌ مطلبية، اندلعت على خلفية الانقطاع المتواصل للمياه عن سكان المحافظة، ونتيجة السياسات المائية التي اتبعها النظام عبر عقود عديدة في المنطقة المعروفة بغناها بالمياه وبالنفط، وأفضت إلى حرمانها المياه، وبقائها عرضةً للعطش والجفاف، فضلاً عمّا يعانيه سكانها من الأزمات المعيشية الأخرى التي تعصف بها، وبسائر المحافظات والأقاليم الإيرانية.
وامتدت المظاهرات الاحتجاجية لتشمل معظم مدن الأهواز وبلداتها، ورفع المحتجّون فيها شعاراتٍ تتهم السلطات الإيرانية بسرقة مياه الإقليم، وتحويلها إلى محافظتي أصفهان ويزد، وحرمانهم إياها، على الرغم من أن الإقليم يعتبر الخزّان المائي الأكبر في إيران، نظراً إلى وجود عدة أنهر فيه، لكن سلطات النظام الإيراني أقامت عليها سدوداً لإنتاج الطاقة الكهربائية، وخصوصاً نهر كارون، فضلاً عن تحويلها مياهه إلى محافظاتٍ أخرى، ما سبّب تضرّر مساحات زراعية شاسعة، وارتفاع منسوب الجفاف في الإقليم، وفقدان سكانه - وغالبيتهم من العرب - مصادر رزقهم وسبل عيشهم. لذلك، يعتبر ناشطون حقوقيون إيرانيون أن الأمر ليس عرضياً، وأن نقص المياه الحادّ فُرض على أهل الأهواز قسراً، إذ لا يمكن إقليماً فيه عدة أنهار رئيسة، ويحتوي على 35% من الموارد المائية في إيران، أن يُصاب بالعطش، بل هو نتيجة سياسة ينتهجها النظام الإيراني ضد سكانه الذين يعيشون على ضفاف هذه الأنهر.
ولم تتوانَ قوات الأمن الإيرانية عن إطلاق الرصاص على المحتجين وقتل عدد منهم، على الرغم من الطابع السلمي لمظاهراتهم الاحتجاجية، مؤكّدة بذلك النهج الأمني في تعامل النظام الإيراني مع حركات الاحتجاج المطلبية المتكرّرة التي شهدها هذا الإقليم منذ عدة عقود، وخصوصاً في 2005 و2011، نتيجة سياسات النظام وممارساته التي تقوم على توظيفها في إطار صراعاته الداخلية، حيث يريد الحرس الثوري وأجهزة النظام الأمنية تبرير استقدام قوات أمنية وعسكرية من أجل قمع الاحتجاجات بالقوة، وتحميل حكومة الرئيس حسن روحاني المسؤولية عن اندلاع الاحتجاجات، والتنصّل من مسؤولية قتل المتظاهرين من خلال إلقاء التهمة على مجموعات مسلحة من أبناء المنطقة، تعمل على تنفيذ أجنداتٍ خارجيةٍ معادية للنظام، وتسعى إلى إسقاطه عبر إشعال اضطرابات واحتجاجات ضده.
النظام الإيراني لم يلبّ أي مطالب رفعها سكانه العرب الأصليون للحصول على حقوقهم الأساسية والدستورية، وتعامل مع مطالب حركاته الاحتجاجية بالقمع وبالإهمال
في المقابل، لقيت حركة الاحتجاج في الأهواز تضامناً واسعاً من شخصيات وفعاليات نقابية وثقافية عديدة، حيث كتبت المحامية، نسرين ستوده، رسالة من داخل سجن قرجك ورامين، اعتبرت فيها أن الناس في خوزستان ومدن إيرانية عديدة "محرومون المياه، وأنهم يتعايشون مع هذه الأزمة منذ سنوات عديدة"، بينما أصدرت رابطة الكتّاب الإيرانيين بياناً داعماً للاحتجاجات، وطالبت بوقف إطلاق الرصاص والغاز المسيل للدموع على المتظاهرين من قوات الأمن، وعدم تشويه صورة الاحتجاجات. وكذلك أعلن المجلس التنسيقي لنقابة المعلمين في إيران، في بيان له، دعمه الاحتجاجات، وأصدر أكثر من 330 مثقفاً وكاتباً إيرانياً، بينهم سينمائيون، بياناً أكدوا فيه دعمهم الحراك الاحتجاجي في الأهواز، وتضامنهم "مع المواطنين الذين سئموا الظلم والعنف والتمييز في خوزستان".
وبالفعل، سئم عرب الأهواز الظلم والتمييز المتراكمين خلال عقود عديدة، فهم لا يتمتعون بحقوقهم الأساسية، مثلهم مثل سائر الأقليات الإثنية الأخرى التي تعيش في إيران، وجرّدتهم الأنظمة السياسية في إيران، منذ عهد الشاه، من حقوقهم الإنسانية، وتهجيرهم من أراضيهم التاريخية بالقوة، وتوطين آخرين لا ينتمون إلى السكان الأصليين، وذلك تنفيذاً لمقولة تزعم أن إيران دولة واحدة مع لغة واحدة ودين واحد وهوية واحدة، على الرغم من الواقع القائم على التعدّدية فيها، وبالتالي لن يجدي نفعاً كلام أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، الأدميرال علي شمخاني، حين تحدّث قائلاً إن "الشعور أو الإحساس بالتمييز أكثر ألماً من الجفاف وقلة المياه"، لأن المطلوب إزالة الأسباب التي أفضت إلى ذلك، حيث يعلم شمخاني أن أهله في الأهواز لم يكن التعامل معهم منذ بداية الثورة الإيرانية وفقاً لما ينص عليه الدستور الإيراني نفسه، بل جرى التعامل مع مطالبهم وفق النهج الأمني، إضافة إلى سياسات التغيير الديموغرافي التي اعتُمدت في إقليمهم، وأدّت إلى اندلاع احتجاجاتٍ عديدةٍ قُمعت بدموية، وتشويه مطالبهم بتهمة الانفصال، فيما كانت مطالب معظم القوى المدنية والحزبية في الإقليم تتمحور حول المطالبة بتحسين الظروف المعيشية وتطبيق الدستور ونيل حقوقهم الدستورية والمدنية والقانونية. لكن النظام الإيراني كان يصرّ على التعامل الأمني معها جميعاً، وبالتالي لم يختلف نهجه مع الاحتجاجات الدائرة عن سابقاتها. ومثلما اعتبر المجلس التنسيقي لنقابة المعلمين في إيران، في بيانه، أن "السلطات تحاول دائماً أن تنسب الاحتجاجات إلى جهات أجنبية"، وأن "المطالب بدعم احتجاجات الشعب المظلوم في خوزستان ارتفعت في جميع أنحاء البلاد، ما يعكس أن المطالبة بالحقوق والاحتجاج من أجل تلبيتها شأنٌ لا يمكن محوه، ولا يمكن إخماده أيضاً بالقمع".
لا يمكن إقليماً فيه عدة أنهار رئيسة، ويحتوي على 35% من الموارد المائية في إيران، أن يُصاب بالعطش
وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة التي يوليها النظام الإيراني لإقليم الأهواز، منذ النظام الملكي، وصولاً إلى النظام الحالي، نظراً إلى ما يمتلكه من ثروات مائية وعائدات نفطية، وما يشكله من مصدر غذائي لباقي الأقاليم الإيرانية، إلا أن النظام الإيراني لم يلبّ أي مطالب رفعها سكانه العرب الأصليون للحصول على حقوقهم الأساسية والدستورية، وتعامل مع مطالب حركاته الاحتجاجية بالقمع وبالإهمال.
ربما من سوء حظ المحتجين الأهوازيين أن الاحتجاجات تأتي في وقتٍ تشهد فيه إيران مرحلة انتقالية تمهد الطريق لتولي الرئيس الجديد، إبراهيم رئيسي، مهامه. لذا، لا تريد القوى المهيمنة على النظام السماح لها بأن تعكّر سلالة الانتقال، ولا أن تشكّل مصدر تهديد له، على الرغم من اتساع رقعة الاحتجاجات وامتدادها إلى مناطق أخرى، وتطوّر مطالبها وخروجها عن الجانب المطلبي وأزمة المياه إلى الجانب السياسي، مع التركيز على المطالب الحقوقية المدنية والدستورية.
والأدهى من ذلك، أن انفجار الحركة الاحتجاجية في إقليم الأهواز دفع القوى المهيمنة على النظام الإيراني إلى اللجوء إلى نظرية المؤامرة كعادتها، واعتماد الحل الأمني من خلال القمع والاعتقال، واستخدام الرصاص الحيّ بقصد استهداف المحتجين وقتلهم منذ اليوم الأول للاحتجاجات، بدلاً من محاورتهم والإنصات إلى مطالبهم، مع أن شعب الأهواز، مثلما كتب الموسيقار والملحن الإيراني، حسين علي زادة، في رسالته إلى المحتجين: "شعب خوزستان الأبيّ يريد الماء لا الدم".