شكسبير وتشارلز الثالث
لا تتوقف الظاهرة البريطانية بقوة الطقوس والمراسم البروتوكولية الوداعية للملكة إليزابيث، ما يشبه استعراض القوة الناعمة لشيء كبير يتم تخزينه في ذاكرة. تعيش المملكة الماضي بالتذكّر، وتعيش المستقبل بانتظار حفل التنصيب الرسمي للملك تشارلز هذا الخريف أو الربيع المقبل. أعطت الملكة الراحلة الفكرة عن العالم الماضوي، ولكن ليس القدرة على عرض الأفكار الجديدة، في حين تبقى الأمور رهينة الميثولوجيا القديمة تروي أشياء جميلة، لكنها لا تحيل إلى شيء، لأن لا وجود لأشياء فيها طوبولوجية سياسية، في عالم يشهد حربا من نوع آخر باسم التاريخ ورمزيته. كرونولوجيا إليزابيثية، محاولة لتملك الماضي ومناداته كأثر متبق، وما قد ينجم عنه من تأثير في السياسة، ومن تصدير فترة تاريخية من أجل قيام بريطانيا الكبرى، وتلك مهمة السياسة، فالسياسة ليست فنا وتراثا، صحيح هي الذات الشكسبيرية التي تريد أن تكون هي، ولا شيء آخر.
يتحوّل الآخرون الذين حضروا الجنازة إلى رؤية متباينة (المجموعة الأوروبية واحدة منها). كأن الأيام العشرة كانت طالعة من عالم الشاعر والمسرحي وليم شكسبير(1564-1616)، من زمنه، في رفقة مسرحية عميقة معه، بالعودة إلى أربعة قرون مضت. كان شكسبير الإليزابيثي حاضرا، ليس كيانا خارجيا، بل في حاضر الملكية الدستورية ومستقبلها، وما سيكون عليه مستقبل بريطانيا وهواجسها وأزماتها، فالسياسة البريطانية مدعوّة إلى قراءة مغايرة لنسيان تلك الفترة من الهيمنة السياسية والهوية المركزية العليا، حتى تصير بريطانيا محرّكا تاريخيا. عاش العالم في رحابة شكسبير وظلال شخصياتٍ تتردّد في كل مسرحياته.. كان من المستحيل تخيّل ما شاهده ملايين الناس من دون تذّكر ما يطاول لغته، عمقه، وإسهاماته في الفن والأداء والثقافة الشاملة الموسيقية والتاريخية والفلسفية، وإسقاطاتها في السياسة.
ما عاد البريطانيون منشئين ولا بناة لأي حضارة، وإنما مجرّد حاملين لها
استعراض طويل، مرجع يقاس عليه نتاج من الغموض والالتباسين الجماليين، القديم والحديث، عكس احترام البريطاني ذاته أولا، ملكته، وطنه، وأعرافه الدستورية في تنظيم مجتمع ملكي مفتوح استقبل 500 شخصية قيادية في المأتم. وهذا يعكس مدى حب البريطانيين العائلة المالكة (62% من الشعب البريطاني). ما شاهده العالم بني عليه ما له علاقة بالحياة الإنسانية، والتفاعل بين العالمين الواقعي والخيالي، ما أدّى إلى تشكيل سجل حضاري على خلفية مفهوم تحديث وظائف تاريخية عبرت في ميادين الاستعراض العسكري، الطقوس، اللباس، الورود، الآلات الموسيقية، الأصوات، الصمت داخل كنيسة القدّيس جورج في وندسور. كأن الطقوس والإشارات (سعدالله ونوس) أهم من القضايا الأساسية من أمجاد المملكة وانهياراتها، مراسم التوديع الإمبراطورية أضيفت إلى تلك التقاليد مع التنظيم، الأمن، حماية المشاركين. تنظيم غير مسبوق في طمأنينة غير عادية. كأن تلك الأمور تجري بمفرداتها وبالروح، والعقل، والجسد، وبتفاعل على مستوى، فردي وآخر جماعي وثالث سياسي، من منظور التراث والدين والمجتمع والفن، وما يرتبط بأبعاد حضارية متعارف عليها في عصر النهضة الإنكليزي وما سبق. تظاهرة جمعت الجماليات والتقاليد البريطانية من خلال المنظور المزدوج لملكةٍ على رأس المؤسسات، الدستورية والعسكرية والدينية، ما يشير إلى كينونةٍ ميتافيزيقيةٍ لمسرحٍ كان رائجا ومقبولا، ولما هو ديني في المسرحيات الدينية في العصور الوسطى. كأنه متّسع للتأمل المسموح في كلام هاملت لأوفيليا، وفي "الأداء المباشر"، ورمزية المفهوم الجمالي في أنواع الزهور والنباتات التي قطفت من حدائق قصور الملكة في قصر باكنغهام، كلارنس هاوس وهايفروف هاوس، وفي بروتوكول الملابس وجهاد العين لكي ترقى الصورة الداخلية، ولترقى في عيون العالم، لأهمية الموروث التقليدي من الناحية الاجتماعية، وأساطير تعود إلى الإغريقية. .. إنتاج ضخم للمؤسسة التاريخية باعتدال وقدرة الالتزام بالتوجيهات والإرشادات الشاملة، لا شيء خارج النص البروتوكولي.
خلطة بين التاريخ والسياسة لم تكن عرضية، ترجمة للأعراض النفسية التي تعاني منها بريطانيا. ما عاد البريطانيون منشئين ولا بناة لأي حضارة، وإنما مجرّد حاملين لها، فالحل للخروج من إحراجات العصر الحديث ربما ليس في الديمقراطية ولا في وهم النظّر. إنما إله واحد ينقذ البلد (ريتشارد وولين). ليس الأمر تبخيسا من المشروع الحداثي للاستقلالية في "بريكست" (يناير/ كانون الثاني 2021) ، بل قبول عناية تنقذ البريطانيين من الهاوية، ومن أوضاع العالم الصعبة، من نوع ما عبّرعنه خطاب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس في الدورة 77 من أعمال الأمم المتحدة في نيويورك 2022، "أن العالم في ورطة كبيرة، وفي الأفق شتاء قاس من السخط العالمي في ظل اشتداد أزمة غلاء المعيشة، والمجزرة المناخية، وانهيار الثقة وتزايد اللامساوة".
كان من المستحيل تخيّل ما شاهده ملايين الناس في جنازة الملكة من دون تذّكر ما يطاول لغة شكسبير وعمقه
هل يمكن لبريطانيا مواجهة التحدّيات وحدها، وأن تحافظ على هذا الإرث العظيم وسط معارضة 22% من البريطانيين للملكية الدستورية، ومطالبتهم بالعودة إلى النظام الجمهوري، ثم معالجة مسألة استقلال اسكتلندا، وأوضاع متغايرة جرّاء الحرب الأوكرانية. إنه عدم الاستقرار نفسه. وقد تراجعت بريطانيا في قائمة الدول الصناعية السبع إلى المرتبة الخامسة. ثم كيف ستعمل الملكية من خلف الأبواب، وبطريقة غير مباشرة، بأي نموذج، بأي قدرة للولوج بثقافة الملك تشارلز في توجيه سياسات بريطانيا إزاء قضايا لا تنتمي إلى هوية محدّدة، والفترة ليست واحدة. .. هل تشكل نسقا مختلفا عن سياسات تماهي الملكية الدستورية في عدم رفض الحرب على العراق الى سجل مأساوي في صياغة الاحتلال الاسرائيلي الأراضي الفلسطينية وترسيمه وتشريعه منذ وعد بلفور العام 1917، من دون أن يتبعها إنكار، أو اعتذار، أو تصحيح، أو تعويض لتقليص العار أو الخطأ.
مفردة "الإبادة" التي صاغها لاكو -لابارث صائبة، حيث جرى تضخيم الحرب والقتل، وإعداد المشهد لاحتلال إسرائيلي بني على قطيعة مع الديمقراطية وحقوق الإنسان. ما جرى لا يناقض حكاية الحرب التي تعود مع الإليزابيثية الشكسبيرية بالصورة الإحيائية، مع كل هذا التنظيم المؤسساتي البيروقراطي، ثمرة المؤسّسة التي بيّن منها غلافها تحاول ترتيب أيام فوضوية وكسورالتاريخ وإخراج البريطانيين من حالة اليأس والأوضاع الثقيلة، قبل أن تتلاشى بريطانيا نهائيا في السنوات الأخيرة، ولم تجد لها عدوا حقيقيا. ولكن هل لدى بريطانيا القدرة على تنظيم شؤونها، الانتقال من عالم الاستدلال والتأويل التاريخي والمسرحي إلى جدولة جديدة لفهم واقع عالم اليوم البريطاني في الشؤون السياسية والاجتماعية والخارجية؟ لا نبدو فاعلين كفاية إلا إذا ارتضينا مثالا لنا، أن نعترف بذواتنا ونحمل الآخرين على الاعتراف بنا، كذلك نعترف بحقوق الآخرين وذواتهم، والاعتراف بأن سكان المستعمرات القديمة أيضا كائنات بشرية فاعلة، وأن عالم الرق شمل الأسود والأبيض معا. المعايير والقيم يمكن خضوعها أيضا لحاجات المجتمع الإنساني ككل في ختام تاريخ طويل من الاستعمار والحزن والأخطاء، عدم احترام أصحاب السيادة الشعبية وفقدان الاستواء في السياسات العامة، و"لأن الأزمات الكبرى شخصية واجتماعية، هي من الأهمية سواء" (جان – فرانسوا ليوتار)، فالعالم لم يتحرّر من المقاربة التجسمية والتأليهية للتاريخ والسوسيولوجيا الكلاسيكية في طريقة تعاطيها الخطرة، وهي مارست تاثيرا طاغيا منذ الحرب العالمية الأولى.