شيرين عبد الوهاب وشارون ستون
شغلتنا في الصيف الماضي المطربة المصرية، شيرين عبد الوهاب، بخلافها مع زوجها حسام حبيب. بعد طلاقها منه، كانت لها عدّة مداخلات مع الإعلام، تروي ما كانت تتعرّض له من عنف جسدي ومعنوي. الضرب، الشتائم، المناكدة، الغيرة، المعايرة. وكانت ذروة شكواها لجمهورها، بعيْد هذا الطلاق، عندما أطلّت عليه في إحدى حفلاتها، وهي حليقة الرأس، وبكَتْ وروَتْ شيئاً عن صداقتها مع معالِجها النفسي، وتقديرها له... فكانت ردود الأفعال العظيمة، باستثناء أنّ شيوخاً من الأزهر عابوا عليها حلق شعرها "من دون مبرِّر شرعي" إذ "نهى الرسول عنه، إلا في بعض الحالات والاستثناءات"... عدا ذلك، إذاً، موجة عارمة من التعاطف مع الفنانة: مواقع التواصل، فنانات زميلات لها، أقلام نسائية... جميعهم رفعوا الصوت على العنف المنزلي الذي تعرَّضت له، على كون ضحيته هي التجسيد الأكثر كثافة للعنف الذي يمارسه مواطنون بسطاء على زوجاتهم البسيطات، ولجرائم القتل المتصاعدة لرجال بحقّ زوجاتهم، أو خطيباتهم، أو حبيباتهم. بعضهم استبشر خيراً بأنّ شهرة الضحية ستكون في خدمة قضية العنف ضد النساء...
وفي هذه اللحظات الحرِجة، جاءت الضربة الثانية على رأس الفنانة، هذه المرّة من شقيقها. تسرّبت أنباء عن ضربها، عن شدّها عنوةً، عن إرغامها على الدخول إلى مستشفى للمعالجة من إدمان المخدّرات... فعلَتْ الأصوات مجدّداً، وانضم الشقيق إلى الزوج، بصفته الذَكَر الذي يُخضع أناث العائلة النشاز. لكن هذه المرّة، ذهب خيال بعض المعِّلقين إلى مقارنة شيرين عبد الوهاب بالأديبة الفلسطينية السورية اللبنانية، مي زيادة (1886-1941)، التي أدخلها شقيقها عنوة إلى مستشفى الأمراض العقلية في إحدى ضواحي بيروت، بسبب تمرّدها على قراراته العائلية.
عادت شيرين إلى زوجها فتأذَت مشاعر الجمهور والنساء المتضامنات
لم تدُم هذه الجَلَبة طويلاً. قبل أسابيع، عادت شيرين إلى زوجها. تزوّجته مجدّداً. فتأذَت مشاعر الجمهور والنساء المتضامنات. وأخذت فنانات زميلات وإعلاميات مشهورات يدافعن عن قرارها المستجَدّ، وكأنّ شيئاً لم يكن. حاورها أحد مشاهير الإعلام التلفزيوني عن الموضوع، فقالت إنّها سامحت شقيقها وتنازلت عن كلّ القضايا التي رفعتها ضده؛ حتى لا تؤذي والدتها ولا تبكي بسببهما. ثم اعتذرت لزوجها حسام حبيب، على تصريحاتها السابقة ضدّه، مفسِّرة الأزمة كلها بأنها كانت "سحراً تمّ فكّه"، وطمأنت الجمهور بأنها "في عصْمة رجل"، يحبّها ويصونها "من البداية"...
في هذه الأثناء بالضبط، كان المهرجان السينمائي الدولي للبحر الأحمر ينعقد للعام الثاني في جدّة. تحضره النجمة العالمية شارون ستون، وقد تجاوزت الستين. وسبق أن تصدّرت قبيل ذلك غلاف مجلة فوغ أرابيا، الصادرة في دبي. وها هي المجلة نفسها تجري معها مقابلة، تتكلم فيها النجمة عن مسيرتها وحياتها وأولادها. تكشف فيها عن عذابها مع طليقها الأول الذي حرمها من ابنها. عن أنها اختارت التمثيل لأنها كانت تحتاج المال، لم تنْفعها شهادتَاها الجامعيَتان، في الاقتصاد والأدب الإنكليزي. عن أنها بقيت طويلاً حبيسة دورها في الفيلم الذي رفعها إلى النجومية "غريزة أساسية" تعامَل وكأنه لا تليق بها غير أدوار الإغراء، ومادّة لسخرية محيطها الهوليوودي، بصفتها "غير موهوبة". وأنّها حاولت دخول عالم الإنتاج السينمائي، لكنّه أغلق عليها أبوابه "لأنّه عمل رجال، لا نساء". وأن الله خلقنا كلنا متساوين، رجالاً ونساء. وأنّ النساء أكثر حرية اليوم من أي حقبةٍ مضت. وأنّ لديها أربعة أولاد بالتبنّي، ترعاهم، وتحاول حمايتهم من أضرار شهرتها. وأنّ اهتمامها بالقضايا الإنسانية هو من وحي أيقونات الماضي، إليزابيث تايلور وأودري هيبرن. وأنّها عندما قرّرت العمل في "مؤسسة ليز تايلور للأبحاث حول الأيدز" اعترضها الوسط الهوليودي بحجّة أنّها ستخرّب مسارها الفني. وكان مرض الأيدز وقتها محظوراً (تابو)، وأنّ هذا الالتزام الإنساني أضرّ، فعلاً، بمسارها، لكنّها ثابرت عليه، ولم تتراجع.
للفنانين النجوم كواليسهم وأسرارهم، ودوافعهم الغريبة أحياناً
لسنا مضطرّين لتصديق كلّ ما تقوله شارون ستون، رغم تأكيدها مراراً أنّها "لا تبالي بالإعلام". فللفنانين النجوم كواليسهم وأسرارهم، ودوافعهم الغريبة أحياناً. لا تصبّ كلها بشفافية في الصورة التي يقدمونها للجمهور والمشجِّعين.
جاءت شارون ستون على الذكر في حديثنا عن شيرين عبد الوهاب، لأن الاثنتين خرجتا على الإعلام العربي في توقيتٍ متقارب، في هذه الأيام من أواخر السنة. ولأنّ الاثنتين قادمتان من طبقة فقيرة، وكافحتا من أجل فنهما. ولأنّ حضورهما طاغ في مجاليهما، الغناء والتمثيل، وإن كانت شيرين أصغر عمراً، موعودة ربما بمستقبلها، مدعومة فنياً بحاضرها، إذ تُعتبر المغنية الأولى في مصر، والثانية في العالم العربي. وقد يتوقّف التشابه بين الاثنتين عند هذا الحدّ. الصورة التي تقدّمها كلّ منهما هي نقيض الأخرى. تستنجد شيرين بالجمهور مثل أي سياسي يستعين بناخبيه ليكسب عطفهم. ترفع الدنيا إلى آخر سماوات، تنْبش في قضايا العنف ضد النساء، تتجنّد من أجلها شخصيات وإعلام... وبعد ذلك، تعتذر، تبيّض صفحة معنّفَيها، ويتأفف أصدقاؤها من الذين يعاتبونها. ويذهب بعضهم للدعوة إلى عدم التكلّم عن "حياتها الخاصة"... فتخرُج صورتها إلى الملأ، وطبائعها: من أنّها خيّبت آمال المعنَّفات من غير النجوم، اللواتي أملن بأن قضيتها سوف ترفع صوتهن. إنّها امرأة مزاجية، نزِقة، شقية، لا عقلانية، مشتّتة التفكير، فيما تبدو شارون ستون مقابلها امرأة متّزنة، شجاعة، شفافة، سعيدة.
تجسد شيرين وشارون ستون، بدرجاتٍ شبه متوازنة، ذهنية البيئة الضيقة والواسعة التي تنتميان إليها
ونحن ما زلنا في الصورة الذائعة، لا الكيْنونة المختبئة. وما ينْضح عن المقارنة أنّها تعكس الذهنية المقبولة، أو "الصواب السياسي"، في كلتا الحالتين: أن ترفع شيرين الصوت وتجنّد الجميع، وتعود فتعتذر عن "الجرْسة" وتمْحو كلّ ما سبق، وقد شكَتْ منه بضجيجٍ كثير، فهذا سلوكٌ مقبولٌ لا تشوبه شوائب كثيرة بالنسبة لمجتمعها. وأن تستمر شارون ستون في كفاحها من أجل نجاحها وتوازنها النفسي والتزامها بقضايا غيرها، فهذا ما تشجّع عليه شروط عيشها. والاثنتان تجسّد كل منهما، بدرجاتٍ شبه متوازنة، ذهنية البيئة الضيقة والواسعة التي تنتمي إليها.
أما الجديد في الموضوع، فهو أنّ السعودية، حيث حضرت شارون ستون وتكلَّمت وكُرِّمت، وبالاشتراك مع الإمارات، تصدِّر صورة شارون ستون، ابنة الحالة المتحرّرة، فيما مصر تصدِّر صورة شيرين عبد الوهاب، ابنة مجتمع عرف التحرّر في حقبة من حقباته، وها هو يتراجع عنه، يتستّر على هذا التراجع، يدوّر زواياه بالتلفيق، وقربانه فنانة موهوبة، ضائعة بين نجاحها الفني واعتلال صحتها النفسية، تلك الصحّة التي يحتاج إليها المشهورون أكثر من أي مواطن عادي.