صباح الأحمد .. صفحة لا تُطوى
على مدى أكثر من نصف قرن، ارتبط اسم دولة الكويت برموزٍ من أهمها صباح الأحمد الصباح أمير البلاد الذي غادر دنيانا عن 91 عاما الثلاثاء 29 سبتمبر/ أيلول الماضي في مشفى أميركي. وكان الراحل من بناة الاستقلال، ومن صانعي نهضة الإمارة، ووجهها الدبلوماسي الأبرز أربعة عقود. وفي موقعه على رأس دبلوماسية بلاده، أسهم في صناعة التوجّه السياسي لهذه الدولة الخليجية، والقائم على الحياد الإيجابي، وعدم الدخول في محاور سياسية أو أيديولوجية. ولسنواتٍ كانت الكويت تتميز بين شقيقاتها الخليجية بعلاقاتها مع الاتحاد السوفياتي، وتتبادل الزيارات مع مسؤولي هذا البلد، فيما كانت الحرب الباردة في ذروتها. كما أقامت علاقات مع دول الكتلة الشرقية أو المنظومة الاشتراكية، إضافة إلى الصين الشعبية و.. الوطنية (تايوان). ولم يكن هناك، بطبيعة الحال، حزب شيوعي كويتي، فالأحزاب محظورة. وقد أسهم عبور هذا البلد المرحلة النفطية، في نقل المجتمع نقلة نوعية وانقلابية من العسر إلى الوفرة، ووضع حدّاً لمظاهر الفقر، ما لا يوفر بيئة موضوعية لحزبٍ يساريٍّ ينادي بعدالة اجتماعية. ومع عدم السماح بتشكيل أحزاب، فقد كانت الملتقيات السياسية متاحة، وكان من أهمها تاريخيا نادي الاستقلال الذي كان حاضنةً لحركة القوميين العرب في الكويت، وجمعية الإصلاح الاجتماعي الحاضنة للإخوان المسلمين.
عرف صباح الأحمد بعلاقته الواسعة بالصحافيين العرب العاملين في الصحافة الكويتية، كما بالإعلاميين الزائرين للكويت
كان صباح الأحمد يمثل الوجه الحكومي الأبرز في التعامل مع البرلمان (مجلس الأمة المنتخب)، ومع الصحافة التي شهدت نهضة كبيرة منذ الاستقلال عام 1961، إذ كان مُحاوراً ومُساجِلاَ للمعارضة، إلى جانب ولي العهد السابق، سعد العبدالله. وذلك قبل أن تتغير هوية المعارضة إلى قبلية وذات منزع طائفي. وهو من بناة التوليفة الديمقراطية التي كانت تستبعد النساء ترشيحاً واقتراعاً حتى العام الأخير من القرن الماضي، وظل يرعى حرية الصحافة "المسؤولة"، ويتولى رعايتها. وعرف الشيخ صباح بعلاقته الواسعة بالصحافيين العرب العاملين في الصحافة الكويتية، كما بالإعلاميين الزائرين للكويت، وبالذات من لبنان ومصر، في عقدي السبعينات والثمانينات. وفي اجتماعات جامعة الدول العربية، على المستوى الوزاري وعلى مستوى القمم، كان الشيخ صباح النجم العربي الأبرز والأرسخ حضوراً بين وزراء الخارجية العرب. ويعلم الله أي مشاعر انتابت "أبو ناصر" في أيام مرضه الأخيرة، وهو يتسمّع لأنباء المقايضة العلنية بين الحكم العسكري في السودان والولايات المتحدة على ثمن الاعتراف بدولة الاحتلال والتطبيع الكامل معها، وقد كان وزيراً لخارجية بلاده في قمّة الخرطوم عام 1967 التي انعقدت بعد أقل من ثلاثة أشهر على هزيمة حزيران ذلك العام، وهي القمّة التي عُرفت بلاءاتها الشهيرة: "لا صلح لا مفاوضات لا اعتراف".
ازداد التمسّك الكويتي بمجلس التعاون، ومعه الانفتاح على قبول وجود قواعد عسكرية غربية في الكويت، بعد أن كان وجودها مُحرّما رسمياً وشعبيا
صباح الأحمد صفحةٌٌ من صفحات بلاده وصفحات المنطقة، زاخرة بسياسة خارجية مبدئية ورصينة، منحت لهذا البلد مكانة كبيرة تفوق حجمها الجغرافي والسكاني. ولهذا، كان الراحل، على الدوام، وسيطا مقبولاً ومُرحّبا به، وصاحب كلمة مسموعة في النزاعات العربية، وحتى في النزاعات الإقليمية والدولية، ورائده في ذلك عدم التدخل في الشؤون الداخلية والاحتكام إلى ميثاق الأمم المتحدة وأهدافها وقراراتها، وإلى أحكام القانون الدولي. بل إن ديباجات دارجة آنذاك على ألسنة السياسيين والإعلاميين، مثل: العمل العربي المشترك، والتضامن العربي والالتزام بقرارات القمم العربية، كانت تمتلك قدرا وافراً من المصداقية والمعنى، حين يتحدّث بها ساسة من وزن الراحل صباح الأحمد. وقد اقترن اسمه (وكذلك صورته وصوته) بمرحلة تماسك النظام العربي، وانضمام مزيد من الدول المستقلة إلى جامعة الدول العربية، ثم صعود نجم الدول الخليجية مع مرحلة الاستقلالات في السبعينات وما تلاها من فورة نقطية. وقد جاءت الحرب العراقية الإيرانية على تخوم الخليج، لتشكل أكبر تحدّ مثير للمخاوف لدول المنطقة. ومن هنا جاءت الدعوات إلى تشكيل مجلس التعاون الخليجي، وكانت الكويت آنذاك في العام 1981 من المبادرين لطرح فكرة المجلس وتبنّيها، وحيث تم إطلاق الفكرة في أبوظبي من ذلك العام، بعدما لقيت الفكرة تجاوبا من الشيخ زايد آل نهيان. ومع الاجتياح الذي تعرّضت له الكويت، ازداد التمسّك الكويتي بمجلس التعاون، ومعه الانفتاح على قبول وجود قواعد عسكرية غربية في الكويت، بعد أن كان وجودها مُحرّما رسمياً وشعبيا من قبل، وذلك بعد بروز الخطر الإيراني، وتحقق الاجتياح من نظام الجار الشقيق العراق.
اتسمت السنوات القليلة الماضية بتمسّك الكويت بمجلس التعاون الخليجي وعدم التضحية به أو تجويفه
وقد كان للغزو وتداعياته انعكاس على السياسة الخارجية الكويتية ومهندسها صباح الأحمد، حيث أصبحت الكويت أقل احتفاء بالوضع العربي، وأكثر انشغالاً بالوضع الداخلي وتحصينه، وهي المرحلة التي بدأت منذ تسعينات القرن الماضي، وعرفت انكفاءً كويتيا عن الانغماس المباشر بشجون المنطقة، بعد أن تغيرت الأولويات، وقد انعكس ذلك على صحافتها ووسائل إعلامها، ثم أمكن للكويت أن تعيد الدفء إلى علاقاتها مع من كانت تسمّيهم دول الضد. وتجدّد التواصل الكويتي الفلسطيني على مستويات عليا، ونشطت الكويت، إلى جانب دول عربية، في مشاريع التسوية الشرق أوسطية، مؤتمر مدريد على الخصوص عام 1992، مع الاحتفاظ بمحدّدات الموقف الأساسي، وهو التقيد بقرارات القمم العربية وقرارات الأمم المتحدة بخصوص حل الصراع، وهو الموقف الذي ظلت الكويت تتمسّك به، وهي تشيّع فقيدها الكبير. وقد بات من سخريات الزمان أن يشهد الواقع العربي، في هذه الآونة، بداية فرز بين من يقفون إلى جانب دولة الإحتلال الإسرائيلي ومن ما زالوا متمسّكين بثبات بالحقوق العربية، ويناصرون الشعب المستضعف الرازح تحت الإحتلال.
اتسمت السنوات القليلة الماضية بتمسّك الكويت بمجلس التعاون الخليجي وعدم التضحية به أو تجويفه، وهي سياسة استنّها الأمير صباح الأحمد، وتمسّك بها في وجه العواصف التي كادت تطيح هذا التكتّل الإقليمي، وقد نشطت الكويت، بتوجيه من أميرها، بما عرفت بالمبادرة الكويتية لمعالجة الأزمة الخليجية. وعلى الرغم من أن جهوده لم تكلّل بنجاح، إلا أنه ظل متمسّكا بها، مستعينا بدعم شعوب المنطقة للمبادرة، ودعم المجتمع الدولي، وبالذات الولايات المتحدة، لها، والراجح أن دولة الكويت سوف تظل متمسّكة بالمبادرة بعد رحيله.