صدمة ما بعد النشوة
نعود، نحن السوريين، إلى الواقع بعدما شلتنا فرحة التخلص من كابوس نظام الأسد، تلك المعجزة التي يئسنا تماما من حدوثها ونحن على قيد الحياة. لوهلة ظننّا أن مفردة الأبد تبدو حقيقة مطلقة، وأن ما علينا فعله هو الرضوخ والاستسلام لهذا القدر الكارثي، لكن المعجزة حصلت عبر توافقات دولية جاءت لحظة في مصلحة الشعب السوري، أو على الأقل هذا ما نريده، فمن تلقّف فراغ السلطة اليوم لن يقل استبداداً عن الأسد فيما لو أتيح له ذلك، وسوف يسعى إلى فرض نمطه على سورية المتنوعة والمتعدّدة، لكن السوريين لن يوافقوا بعد اليوم على أن تُعاد تجربة الاستبداد في بلدهم، وهو ما يظهر رغم محاولات إسكات الأصوات التي تعترض على سلطة الأمر الواقع وسلوك عناصرها، فلكل فصيلٍ مؤيدوه، خصوصاً إن كان فصيلاً دينياً مؤدلجاً يدّعي تقديم الخلاص لشعبٍ عانى سنوات من العنف والقتل تحت رايات طائفية ومذهبية، ولم يعد لديه سوى التمسّك بدينه، بوصف الدين ملجأ وحماية للبنية النفسية والهوياتية لدى من جرى الفتك به تحت كل المسمّيات الوطنية والقومية والمذهبية.
نعود إلى الواقع لنكتشف، ومعنا العالم بأسره، أن كل ما قيل سابقاً عن إجرام النظام السوري لم يكن سوى جزء يسير من الحقيقة، ما حدث أشدّ هولاً مما قيل عنه. ليس فقط ما جرى الكشف عنه في سجن صيدنايا وغيره من السجون، وإنما الكشف أيضاً عن حقيقة أن مئات آلاف من المعتقلين من أبناء سورية وبناتها، ومن في حكمهم من الفلسطينيين، جرت تصفيتهم داخل المعتقلات؛ فهناك عشرات من المقابر الجماعية التي تُكتشف يوماً وراء يوم في كل سورية، وتضم كل منها مئات بل آلاف الهياكل العظمية، تحتاج خبراء ومخابر وأجهزة ومعدات طبية حديثة لمعرفة أصحابها وتاريخ رحيلهم وطريقة إعدامهم.
السوريون اليوم أمام واقع جديد، صادم إلى درجة الذهول: بلاد بأكملها مدمّرة، حجارتها وبشرها واقتصادها وميزانيتها وخيراتها، كل ما فيها قد فتك به نظام مجرم وخائن تبخّر في لحظة واحدة تماماً؛ ولأول مرة يجري الكشف عن مفهوم ارتباط شخص الحاكم بالدولة إلى هذا الحد. عادة عندما تحدُث ثورة أو انقلاب أو أي شيء شبيه، تبقى مؤسّسات الدولة قائمة كما هي، لكن ما حدث في سورية يفضح ذلك الارتباط الوثيق بين الحاكم والدولة. كان بشّار الأسد هو الدولة، لا توجد في سورية دولة عميقة، لا يمكن الحديث عن هذا، كان بشّار الأسد هو السطح والعمق في الدولة، حين اختفى تبخّر معه كل شيء: الجيش والأمن والشرطة ومؤسّسات الدولة الإدارية والخدمية، كل ما يمت للدولة بصلة اختفى، وانكشف السوريون على فراغ مهول وكوارث وجرائم لا يمكن وصفها أو تصديقها.
السوريون اليوم أمام واقع بالغ الخطورة: ثمة فصيل ما زال مصنّفاً تحت بند الإرهاب الدولي يسيطر على الحكم، فصيل عسكري راديكالي لديه تاريخ من الارتكابات في سورية بحق مدنيين وناشطين، وعناصره غير مؤهلين للتشاركية في الحيز العام السوري المتنوّع، حتى المدرّبين منهم لهذه اللحظة الفاصلة لم يتمكنوا من إخفاء أيديولوجيتهم. وهناك خوف من الانفجار الأمني والطائفي في أي لحظة، رغم ما أبداه السوريون من وعي وطني، رغم كل محاولات فلول النظام السابق والمليشيات المسلحة المختلفة لاستغلال الفراغ الأمني واللعب بمصير سورية وشعبها. وهناك إسرائيل التي دمّرت كل المنظومة الدفاعية السورية، وبدأت احتلال أراض وقرى جنوبية سورية من دون أن يعترض أحد، وهناك تركيا التي أعلن ترامب أنها سوف تكون المسؤولة عن سورية، ما يعني انتقال سورية من الحماية الروسية الإيرانية إلى الحماية التركية. ... كل هذه ملفاتٌ بالغة الخطورة، تضاف إلى ملف الوضع المعيشي المنهار ومستقبل سورية وشكل الدولة القادمة والدستور والنشيد والعلم وعودة المهجرين والمفرج عنهم من المعتقلين. ما يعني أن ما مضى من التاريخ السوري شيء والقادم شيء آخر مختلف، لكنه ليس أقل خطورة أبدا مما كان. سورية اليوم مفتوحة على كل الاحتمالات، وأمامنا، نحن شعبها، فرصة فرض ما نريده لنا ولها.