صراع العروش أم أزمة حكم في الأردن؟
كشفت الأحداث الدرامية التي شهدها الأردن، الأسبوع الماضي، عن عمق أزمة الثقة في الحكم، وطريقة إدارته واتساعها، وعن عمق غضب الشعب الذي لم يصدق أيّاً من الروايات الرسمية بشأن حقيقة الخلاف بين الملك عبد الله الثاني وأخيه غير الشقيق الأمير حمزة، إلى درجة بروز تعاطف، أو حتى تأييد واسع لولي العهد السابق، في اصطفاف غير مسبوق في تاريخ الأردن.
حالة الاستقطاب التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مثيرة للقلق، إذ لها تداعياتها على المجتمع الأردني، وتحجب المطالب الشعبية المحقّة في الإصلاح، وتغيير النهج السياسي الذي يفتقر للشفافية والمساءلة، وضمان التمثيل الحقيقي وإطلاق الحريات وحقوق المواطنة، إضافة إلى تساؤلاتٍ بشأن اتفاقية الدفاع المشترك بين الأردن والولايات المتحدة، وهي تحديث لاتفاقية سابقة، وانتقاصها من السيادة الأردنية.
صُعق الشعب الأردني بخبرٍ تم تسريبه إلى صحيفة واشنطن بوست الأميركية، يفيد باحتجاز الأمير حمزة، ومدير مكتبه، ورجالات عشائر، "بتهمة التحضير لانقلاب". وتبع الخبر نشر بيان رسمي عن اعتقال رئيس الديوان الملكي السابق، باسم عوض الله، والشريف حسن بن زيد، ولكليهما علاقات قوية مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان. اللافت أنّه، منذ اللحظة الأولى، لم يصدّق معظم الأردنيين أنّ الأمير الذي يحظى بشعبية واسعة يتآمر على شقيقه أو على الأردن. وجاءت مقاطع الفيديو التي سرّبها مقرّبون منه لتشعل موجة تأييد وتعاطف، فقد تحدّث كأنّه مواطن عادي، يدافع عن نفسه، متبنّياً جزءاً مهماً من المطالب الشعبية. وقد زادت الرواية الحكومية التي أعلنها وزير الخارجية، أيمن الصفدي، وربطت الأمير حمزة بمحاولة زعزعة الأمن بالتنسيق مع قوى خارجية، وربطته أيضاً مع عوض الله الذي يعتبر شخصية أردنية إشكالية، زادت الأمور غموضاً، والنفوس غضباً ونفوراً مما يحدث مع الأمير.
لحالة الاستقطاب على وسائل التواصل الاجتماعي تداعياتها على المجتمع الأردني، وتحجب المطالب الشعبية المحقّة في الإصلاح، وتغيير النهج السياسي الذي يفتقر للشفافية
شحّ المعلومات وسوء إدارة الأزمة التي تعكس مدى غضب الملك عبد الله، وصدمته من محتوى معلومات أمنية، زرعت الشكّ لديه، أدّيا إلى تخبط وتحشيد موالين لتأييده، فجاء نفاقهم وتسابقهم في ذمّ الأمير بنتيجة عكسية تماماً، صبّت في إذكاء نار فقدان الثقة في النظام، بدلاً من اللجوء إلى تهدئة الوضع، لمنع إحداث شرخ عمودي في الشارع الأردني. فلا يساعد شحّ المعلومات في تقديم رواية لما يحدث، غير أنّ من المعلومات المعروفة بين الأردنيين أنّ علاقة الملك بشقيقه الأمير حمزة افتقرت إلى الثقة، منذ عزله عام 2004 من ولاية العهد، وعيّن لاحقاً نجله الأمير الحسين في المنصب، إذ أزاح الملك من هذا الموقع حمزة الذي كان مقرّباً جداً من والده الراحل الملك حسين، بالإضافة إلى أنّ الأمير الأخ غير الشقيق كانت له زياراته المتكررة إلى عشائر في مناطق عدة من الأردن، واستماعه إلى مطالبهم وشكاواهم، المحقة وغير المحقّة، وكذا تغريداته التي انتقد بها طريقة إدارة الحكم، الأمر الذي لم يعتد عليه الشعب الأردني ويعدّه خروجاً عن تقاليد القصر. وكان رجالات الدولة يتداولون في مجالسهم الخاصة أنّ هناك صراعاً مستعراً بين الملكتين نور، زوجة الملك الراحل الحسين، والملكة رانيا زوجة الملك عبد الله، على وراثة العرش كلٍّ منهما لابنها، وكان الحديث يتم عن الأمر وكأنّه "معركة نسوان"، وكأنّ الصراع على السلطة يكون تافهاً فقط حين يتعلق بخلاف بين امرأتين.
تعامل الأمير حمزة بذكاء لافت مع "محنته"؛ فقد كسب الناس بتسريباته الصوتية والمرئية حول ما حدث معه، وقد ضرب وتراً حساساً لدى الناس، برفضه الأمر الذي أبلغه إيّاه رئيس هيئة الأركان، اللواء يوسف الحنيطي، أن يوقف تحركاته، فكان أن ردّ عليه من جملة ما قاله: "أنا أردني حر" معبراً، من دون أن يعرف، عن صرخة مكبوتة لدى معظم الأردنيين.
لكنّ ذلك كله لا يعني أنّه ليست ثمة قصة ما، أو على الأقل شكوك غذّتها الأجهزة الأمنية، أخرجت الملك عن طوره. ولم تنفع الرواية الحكومية التي تلاها وزير الخارجية، أيمن الصفدي، ولا حتى رسالة الملك إلى الأردنيين تالياً، وإن طمأن الناس أنّ الأمير حمزة في القصر وتحت رعايته، في إقناع كثيرين، إن لم تكن الأغلبية، من الأردنيين، بأنّ الأمير حمزة متورّط مع قوى أجنبية في زراعة الفتنة، كما وصفها الملك في بيانه المكتوب.
كسب الأمير حمزة الناس بتسريباته الصوتية والمرئية حول ما حدث معه، وقد ضرب وتراً حساساً لدى الناس، برفضه الأمر الذي أبلغه إيّاه رئيس هيئة الأركان
وقد يكون بعضٌ من غضب الملك مفهوما إلى درجة ما، إذ ربما وجد في تحرّك الأمير حمزة ونقده العلني تحديا لسلطاته، أو محاولة لفرض نفسه بديلاً، في مرحلةٍ يجد فيها الملك الخطر آتياً من جهات مختلفة، كما حكام في دول خليجية، يضغطون على الأردن لقبول شروط صفقة القرن، بما فيها ما يهدّد أمن الأردن والعرش معاً، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي قطع الملك اتصالاته به، ويتعامل حصرياً مع وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس. وليست مخاوف الملك متخيلة، لكنّ أكثر من سؤال يطرأ هنا: ما هو شأن شقيقه حمزة وخلافه معه في ذلك؟ وما شأن حمزة بمخاوفه من مواقف الإمارات والسعودية اللتين سارعتا بإعلان تأييدهما للملك؟ وما هو الرابط بين الأمير حمزة والموقوفين بباسم عوض الله؟ وهل جرى تحقق، أو تحقيق، في الادّعاءات التي وصلت إلى مسامع الملك؟
رحّب كثيرون بتوقيف عوض الله، لدوره في عملية الخصخصة التي طاولت مقدّرات استراتيجية في الأردن، وهذه العملية خيار، في الأردن، سابق على تولي الرجل مواقعه (مستشار اقتصادي في رئاسة الحكومة، ومدير الدائرة الاقتصادية في الديوان الملكي، ووزير التخطيط، ووزير المالية) لكن لا يبدو لاعتقاله رابط بتلك القضية، ومن المستبعد فتح أيّ تحقيق في المسألة معه، فالخصخصة في الأردن بدأت في عام 1992، وفقاً لاتفاقيات مع صندوق النقد الدولي في عام 1989، وفتح تحقيق في هذا الشأن سيطاول شخصيات نافذة، ورؤساء وزراء، ووزراء، وكلّ من كانت له علاقة بالملف منذ ذلك العام، وهذا لن يحصل.
هناك صراع عروش، وأيضاً هناك أزمة حكم وتغييب للشعب، وتقاطع الوضعين لا يشي بالخير
في غياب الأجوبة، تبقى أسئلة عن مصير الأمير حمزة الذي لن يكون في خطر، لكن ما مستقبله؟ الاحتواء في موقع إلى جانب الملك (إذ يستطيع الاستفادة من علاقاته لتنفيس وضع متأزم مع العشائر) أو إبعاده؟ ومن هي الجهة المستفيدة من استمرار الاستقطاب؟ والسؤال الأهم: أين الشعب الأردني ومستقبله ومطالبه المحقة في فصول صراع العروش؟ لا شك أنّ احتواء الخلاف بين الشقيقين يصبّ في المصلحة الوطنية، فالتصدّع في العائلة المالكة يهدّد بشرخ المجتمع الأردني، ولذا تجنبت بعض الأحزاب والحراكات الشعبية المعارضة الدخول في خلاف العائلة المالكة، ودعت إلى التركيز على الإصلاحات وإطلاق الحريات.
ومع تفهّم مخاوف الملك من التدخلات الإقليمية، يبقى من غير المفهوم استمرار الأردن في تعميق التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل وتوسيعه، في مشاريع تهدّد سيادة الأردن على ثرواته، وتحقق مسعى إسرائيل في جعل الأردن جسر التطبيع الاقتصادي إلى دول المنطقة. ولماذا يعتقد الملك أنّ تحديث "اتفاقية التعاون الدفاعي" مع الولايات المتحدة بشروطٍ تنتقص من السيادة الأردنية، توفر حماية للأردن والعرش؟
... نعم هناك صراع عروش، وأيضاً هناك أزمة حكم وتغييب للشعب، وتقاطع الوضعين لا يشي بالخير، إلاّ إذا خرج الملك عبد الله الثاني، وأعلن خطة إصلاح حقيقية، مبنية على الحوار الوطني، فالحماية للدولة الأردنية تأتي من الداخل أولاً.