صراع في القاع
لم يفاجئ الرئيس اللبناني، ميشال عون، مواطنيه حين ردّ على سؤال إحدى الصحافيات بأن البلاد ذاهبة إلى جهنم. اللبنانيون مدركون هذه الحقيقة، بل على قناعةٍ بأنهم وصلوا فعلاً، وهي قناعةٌ ترسّخت منذ انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/ آب الماضي، وما تلاه من تدهور متواصل للوضع الإقتصادي والخدماتي، والإنهيار المتسارع للعملة المحلية، وانعكاس ذلك على الأسعار والحياة اليومية، وارتفاع مستوى التضخم إلى حدودٍ لا سابق لها. كل هذا يضاف إلى الأزمات المتراكمة منذ سنوات، لجهة الفساد والمحسوبية وانقطاع الماء والكهرباء وفوضى السلاح، وغيرها من الأمور التي تجعل حياة اللبنانيين أقرب إلى الجحيم.
ظنّ كثيرون، لبنانيون وغير لبنانيين، أن كارثة مرفأ بيروت، وما خلّفته من قتلى ودمار، وما كشفته من فساد، ستكون كفيلةً بفتح صفحة لبنانية جديدة، وخصوصاً بعد التضامن الدولي مع لبنان، والمبادرة الفرنسية لوضع لبنة لنظام جديد، وما لاقته من ترحابٍ من الأطياف السياسية اللبنانية، غير أن الأيام التي تلت هذا كله أثبتت أن المسؤولين في هذه "الدولة" ليسوا في وارد الإبتعاد عن أيٍّ من الحسابات الطائفية والمذهبية التي عاشوا عليها، وأن كل التهليل لمبادرة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ما كان إلا انحناء أمام العاصفة، أو العصف، الذي خلّفه انفجار مرفأ بيروت، ووضع جميع الزعماء اللبنانيين في دائرة الإتهام.
اليوم انتهى عصف الإنفجار، وكثيرون نسوا ما حصل في الرابع من أغسطس، وانتفت الحاجة إلى الرضوخ لأي نوع من الضغوط الخارجية. فعاد المسؤولون اللبنانيون إلى ما قبل هذا التاريخ، وكأن شيئاً لم يكن. وعاد الصراع على الحصص والوزارات في بلد موشكٍ على الإفلاس. صراع أدّى أمس إلى اعتذار رئيس الحكومة المكلّف، مصطفى أديب، عن تشكيل الوزارة، بعد الفشل في الإتفاق على اسم وزيرٍ للمالية، يصرّ ما يسمّى في المصطلحات السياسية اللبنانية "الثنائي الشيعي" على أن يكون من حصّتهما.
فشل أديب واعتذاره يعني أن نيران الجحيم اللبناني ستستعر على أكثر من صعيد، بداية من سعر صرف العملة المحلية الذي شهد انهياراً متسارعاً منذ الإعلان عن الخبر، مروراً بردود الفعل الدولية، سيما الفرنسية، على الاعتذار الذي وصفته الرئاسة الفرنسية بأنه "خيانة جماعية من الأحزاب اللبنانية"، ما يمكن أن يترجم لاحقاً إلى عقوباتٍ فعليةٍ ضد أطراف لبنانية، أو مقاطعة جديدة لهذا البلد وتركه في مساره الإنحداري، وصولاً إلى الإفلاس وتكريس "الدولة الفاشلة"، وهو ما كان حاصلاً فعلياً قبل انفجار المرفأ، والذي تحوّل لاحقاً إلى فرصة لبنانية للعودة إلى الساحة الدولية. ويبدو أن هذه الفرصة ضاعت، وشبح العزل الدولي يعود ليخيّم على الساحة السياسية اللبنانية.
لكن الأخطر في تداعيات الاعتذار هذا هو احتمال انعكاسه على الشارع، وخصوصاً أن مستوى الخلاف المذهبي كان أساساً في انهيار التشكيل الحكومي، ورمي كرة المسؤولية بين الأطراف سيتصاعد في الأيام المقبلة، وقد يصبح الشارع ورقة ضغطٍ على الداخل للعودة إلى التفاهمات التي كانت قائمةً خلال السنوات الماضية، والإبقاء على الحصص كما كانت عليه قبل المبادرة الفرنسية. الأمر سبق أن لجأت إليه الأطراف المعنية في أكثر من مناسبة، منها الإعتصام الذي كان في وسط البلد، والذي استمرّ أكثر من سنة، بعد خروج الوزراء الشيعة من الحكومة.
لا يمكن الجزم بأن مثل هذا السيناريو قد يحصل، وخصوصاً أن مبادرات تسويةٍ قد تظهر مع الأيام، لكن الأكيد أن البلاد ستمضي إلى مزيدٍ من الإنهيار على صعدٍ كثيرة، والصراع في قاع جهنم الذي يقبع فيه البلد سيستمر.