صعيد مصر وريفها بين خطاب التمييز وطبول الدعاية
يمارس الوسطاء الإعلاميون، في نظم الحكم السلطوية، نقل الرسائل إلى الجمهور، بغرض تشكيل رأي عام مؤيد للنظام، شارحٍ للمقولات، وإن كانت واضحة، ومفسّرا الخطابات، وإن لم تكن تتضمن رموزا. التكرار سمة لدعاية سياسية، ترى في وسائل الإعلام بمثابة لقاح يحقن، وأن تعدّد بث الرسائل يُخضع المشاهدين لإرادتهم. حسب رؤى نقدية لرواد مدرسة فرانكفورت، تمارس الدولة عنفها غير المادي عبر وسائل الاتصال. وبعد ثورة يناير في مصر العام 2011، وككل الأحداث الفارقة، بما فيها من صراعات وأزمات، تتخذ الدعاية دورا مركزيا، أصبحت هذه في مصر أحد أهم أدوات التعبئة. وواقع الحال أن تعميم الرسائل الإعلامية محكومٌ بأجهزة النظام، تبث رسائلها إلى شبكات المصالح، لينطلق الوسطاء في تعميمها. الوسيط هنا ينسى دوره، يتصوّر، وهو يتوحد مع من يقوده، أنه في موقع السلطة ذاتها، يمتلك نفوذا رمزيا، يجعله يتجاوز حدود مهنية الخطاب (إن كان تعلمها أساسا) وقواعده وآدابه. يمارس التعالي هنا، ويستمدّ من بنية السلطة غياب القيم الضابطة أو المحدّدة للسلوك التي تمنع التعبيرات الجارحة أو الألفاظ المنفلتة. يتقمص الوسيط دور الناصح والعالم والمفسّر، يمارس التهديد والوعيد أحيانا، وهو متوحد مع الولي وخاضع له، وأحيانا منسحق، يبدل جلسته وشخصيته، يرتدي ملابس الفارس، ويخوض حروبه المقدسة، ويرفع شعار الدفاع عن الدولة والوطن. بينما هو ليس أكثر من مرتزق، كان يخوض الحروب نفسها في الصفوف المنتصرة بالأمس، يمارس عنفا لفظيا ضد المشاهدين، يخيفهم ويهدّدهم، ويشكّك في ثقتهم بأنفسهم، خصوصا إن كانوا مستضعفين. .. هكذا تستند النظم السلطوية فى دعايتها إلى إعلاميين لديهم سمات السلطوية.
جاء حديث التمييز الاجتماعي بالأساس شروحا وتأييدا لخطابات رسمية عن الأزمة السكانية وتأثيرها على التنمية
تأتي في السياق تصريحات الإعلامي، تامر أمين، التي أغضبت قطاعات من المصريين، بمقولات تحمل تحقيرا وإدانة لسكان الريف والصعيد، والفقراء عموما، بما تنطوي عليه من وجه طبقي. يتهم أمين الآباء والأمهات بممارسة الاتجار بالبشر، يدّعي أن نسبة كبيرة في ريف مصر والصعيد ينجبون أطفالا من أجل كسب المال، وهم غير مستعدّين للإنفاق على أبنائهم وتعليمهم. يقول إن الذكور يعملون في سن الخامسة بالورش، والإناث خادمات بالعاصمة في سن التاسعة. جاء حديث التمييز الاجتماعي بالأساس شروحا وتأييدا لخطابات رسمية عن الأزمة السكانية وتأثيرها على التنمية. وعلى الرغم من عدم إنكار الأزمة السكانية، إلا أن خطاب الإعلامي هذا، بما فيه من انحطاط بالغ، وكراهية واضحة، قوبل بغضب واسع، واستدعى أن توقف قناة النهار برنامجه، ولم يشفع اعتذار قدّمه عن وقف تعبيرات غاضبة.
تصور الوسيط، وهو يبث خطاب الإيذاء، أنه محتمٍ بتأييد السلطة، لكنه لا يدرك حقيقة أن المصريين ليسوا في وارد احتمال أكثر مما مضى، وأن التبريرات القديمة التي يتم استدعاؤها من السبعينيات عن الأزمة السكانية ليست كافيةً لتفسير الأزمات الجارية. أما مدح كل خطوة بوصفها إنجازا فلم يعد مقنعا، في وقتٍ تتراكم فيه الخبرات السلبية، مع كل وعدٍ بتحسن الأحوال الاقتصادية، يلي ذلك ارتفاع في أسعار السلع والخدمات، والتفنن في فرض ضرائب جديدة. للمفارقة، منها ضريبة الراديو والتلفزيون، كما يسبق التبشير بالانفتاح وعودة مساحات للحرية، قرار بمد العمل بقانون الطوارئ، بينما يتهم من لا يدور في فلك الدعاية بأنه لا يفهم، ولو فهم يُطالب بتقديم حلول، هذا إن لم يصنف ضمن داعمي الإرهاب! بعد ذلك كله، توجه لكمات إضافية للمفقرين فى شكل إهانات بالغة، تخالف الواقع، وتنم عن جهالة وافرة بمدى ثقل الأعباء، وأن المشرحة لا تحتمل مزيدا من القتلى.
ليس من الممكن رؤية خطاب أمين بوصفه تعبيرا شخصيا منفصلا عن منظومة الدعاية والمغالطات المتكرّرة، فالخطاب الطبقي الذي يصوّر الفقراء قساة القلب، يغلب عليهم الجشع والأنانية، وأنهم أصل الأزمات، يُخلي ساحة متّخذي القرار والمتحلقين حولهم، فالأسر الفقيرة تزيد من نسب السكان، وتسبّب خللا في التنمية، وهم سبب أزمة التعليم إذا طالبوا بتحسينه، ومصدر عجز القطاع الصحي إذا اشتكى أحدهم من نقص أنبوبة أكسجين. لا يسأل هؤلاء عن تكافؤ الفرص والتفاوت في توزيع عوائد التنمية، المذيع الذي يفتقد للمهنية (لم يدرس علوم الاتصال والإعلام، التحق بالتلفزيون عبر محسوبية عائلية، وهو الذي يتفلسف حول علاقة الزيادة السكانية بالتنمية وتآكل الفرص).
المواطن المصري الذي يشقى، ويخوض حروبه اليومية البطولية من أجل تعليم أولاده، يعيل الحكومة أيضا، ويموّل ميزانية الدولة بما يزيد عن 70% في شكل ضرائب
مارس أمين منطق الدعاية نفسه الذي ينقل السلطة من موقع المسؤولية إلى موقع ضحية للشعب الجاهل الفقير غير الواعي، الذي يمثل عبئا عليها، الشعب الذي يأكل ويشرب ويستهلك، وتصرف عليه الدولة، ويكلفها مليونا ونصف المليون جنيه منذ ولادته حتى وفاته، حسب تصريح لوزيرة تخطيط (هالة السعيد) كان يشار إلى تميزها الأكاديمي، بينما واقع الحال أن المواطن المصري الذي يشقى، ويخوض حروبه اليومية البطولية من أجل تعليم أولاده، يعيل الحكومة أيضا، ويموّل ميزانية الدولة بما يزيد عن 70% في شكل ضرائب (حسب تقارير الموازنة)، غير ما يحوله المصريون العاملون في الخارج من حصيلة دولارية (تجاوزت 22 مليار العام السابق)، وجزء كبير منهم من أبناء الريف والصعيد، هربوا من التهميش الذي فُرض عليهم، بينما تُخفق سياسات الحكومات في اختبارات التنمية. وسيسدد المواطنون الذين لا يعجبون تامر أمين وزمرته قروضا وصلت إلى 115 مليار دولار (حسب بيانات البنك المركزي)، وسيدفع أبناؤهم مستقبلا فوائدها. وعلى الرغم من القروض والجبايات، فإن معدلات التنمية متواضعة، وتوزيعها مختلّ، والتهميش يتوسع، والفقر يجاوز 32%، وبنسب أعلى في الريف والصعيد، تجاوز في أسيوط 66%، وتقارب 60% في سوهاج، بينما تتجاوز النصف في الأقصر وقنا، ولم يسأل الذين يعايرون الناس بفقرهم من أفقرهم، كما لا يسألون من بنوا ثرواتهم من أين حصّلوها؟
تتصاعد في مصر خطابات إدانة الهجرة الداخلية، من دون النظر إلى أسبابها، وتصوّر أنها سبب أزمة العاصمة كما قال محافظ سابق، وكأن القاهرة تصرف إعاناتٍ للمهاجرين إليها، غير تضخيم الظاهرة، على الرغم من أن الإحصائيات الرسمية تفيد بأن عدد المهاجرين داخليا من 2006 وحتى 2017 لم يتجاوز مليوناً ومائة ألف، أغلبهم عمالة منتجة، منهم 15% فحسب يرتحلون إلى القاهرة. وفي الوقت الذي تبلغ نسبة الأمية 25%، فإنها أقل من 20% بين المهاجرين داخليا. وفي كل الأحوال، لا يمكن فصل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية عن السياسات المطبقة، تدّني مستوى التعليم وبؤس حالة المواطنين يساهم في زيادة الأمية عبر التسرّب، وينتج، في الوقت نفسه، عمالة منخفضة الأجور، تستفيد منها أكثر الفئات التي ترى في الفقراء عبئا عليهم، وفي كل الأحوال، وحتى وإن كان الناس يمتهنون أعمالا بسيطة، فإن ذلك لا يعيبهم، ولا ينتقص من قيمتهم ولا حقوقهم، بل على العكس، يلزم ذلك أن تطبق سياسات التمييز الإيجابي لعلاج الخلل.
يتعاطى سادة العصر الجديد مع سكان الأطراف والصعيد والريف بتعالٍ، ويحرّكهم في إنتاج خطابهم منطقٌ يرى في الآخر (الفقراء وسكان الصعيد) أزمة
حين تسمع ضيق المنتمين للسلطة، إعلاميين ومثقفين، من سكان الصعيد والريف، وتنمرهم على هؤلاء، يخيل لك أن المشكو في حقهم يأكلون ويشربون من ثروات الشاكين، وأن ثروات الباشوات الجدد تناقصت، ولم تتضاعف! يحقّر سادة العصر الجديد من هم خارجهم سياسيا واجتماعيا، وعنصريتهم ظاهرة في خطابات التمييز الاجتماعي، وإنْ كانت تمثّل منتجا ثقافيا، فإن في جوهرها تمييزا طبقيا. لذا، يتعاطى هذا الطيف مع سكان الأطراف والصعيد والريف بتعالٍ، ويحرّكهم في إنتاج خطابهم منطقٌ يرى في الآخر (الفقراء وسكان الصعيد) أزمة. وبذلك يخلي الخطاب، عبر رسائل ضمنية، ساحة متّخذي القرار، ويبرئ السياسات المطبقة. ويرى أن السلطة تُنجز، لكن الأزمة السكانية تلتهم كل نجاح، يكرّرون الخطاب الذي يتسرّب وتتبناه قطاعاتٌ وسطى، ترى في الفقراء والمهاجرين تحدّيا أمام تحقيق التنمية، وأنهم يقلّصون فرص الطبقة الوسطى، بمن فيهم من كوادر من مهنيين ومثقفين وصحافيين وحقوقيين أحيانا ويزاحمونهم، سمعت ذلك أكثر من مرة، حتى في أوساطٍ تدّعي التقدمية والليبرالية، وتنادي بتكافؤ الفرص، ويشتكون مما فعله الصعايدة في القاهرة!
ربما كان تامر أمين صريحا إلى حد الفجاجة، لكنه، في النهاية، يعبر عن منطقٍ لا تتبنّاه وحسب دوائر من السلطة في مصر، ولكن أيضا فئاتٌ تمارس التمييز الاجتماعي والثقافي على أرضيةٍ من التنافس والأنانية، وتغلف انتهازيتها وخطابها التمييزي بعباراتٍ ومنطق يرى في الآخرين تهديدا لهوية مصر وحضاراتها. إنهم يلوثون القاهرة والنيل، ويزحموننا في كل شيء، ويقلصون فرص الطبقة الوسطى. يمكنك تأمل خطاب بعضهم تجاه احتجاجات الريف في سبتمبر/ أيلول 2020 ضد قانون التصالح. سخروا وأطلقوا عليها ثورة الجلاليب، وكأن الاحتجاج حكر على المركز السياسي. وإذا كانت أبواق السلطة تعتبر أن المركز حكرٌ عليها، وفضاء خاص بها، والأزمات يسبّبها أهل الريف والصعيد، فإن هناك نخبا تتبنّى ذلك الاتجاه. يمكن المقاربة بين فئات متعارضة من حيث الشكل، لكنها متفقة على احتكار الفضاءات العامة، ومساحات الجغرافيا والفعل، واحتكار الفرص، فالاستبعاد الاجتماعي يتجاوز ثنائية النظام والمعارضة من هذا النوع. وإذا وضعنا محدّدات طبقية، ستجد أن خطاب التمييز الاجتماعي يشترك فيه طيفٌ واسعٌ من الجانبين. وفي أحيانٍ كثيرة، يكون هناك اتفاق ضمني على احتكار الفضاءات، الإعلامي والسياسي والثقافي، بوصفها مملوكة لفئات طبقية متقاربة، وإن تباعدت على خريطة السياسة.