صلح عشائري سوري في ألمانيا
تفترض الحداثة والمنطق السليم أن على أيّ شخصٍ يستقر في أي بلاد التأقلم والانصياع لقوانينها والنظام القضائي فيها، خصوصا إذا كانت البلاد تمتاز بنظام ديمقراطي شفّاف ونزاهة انتخابية، ورفاه اقتصادي، ومساواة الجميع أمام القانون، وحوكمة رشيدة، إضافة إلى أن تلك البلاد مصدر استقطاب وحلم الاستقرار لملايين الناس ومن كل الأجناس والشرائح الاجتماعية، وبشكل أدقّ من البلاد التي يعاني فيها الفرد من الظلم المركّب بسبب غياب العدالة والفقر والاستبداد ومجهولية المستقبل للأبناء والآباء معاً. لكن المعضلة، من دون تعميم، أن يتحوّل اللاجئون إلى الدول الأوروبية، وخصوصا بعد تمتّعهم بحقوق المواطنة التي يتمتع بها أصحاب الدار، إلى معارضين للعدالة والقانون، بل ونقل شريحة مُحدّدة ممارساتهم وسلوكياتهم السيئة التي كانوا عليها في بلدهم الأم، من تهريب مخدّرات ودخان، وتحايل على القانون، وارتكاب الجرائم، إلى البلد المضيف، فهذه ممارسات تحتاج لكثير من التقصّي والعمل البحثي المضني، والذي لم يبادر الغالبية منا، نحن المشتغلين في الشأن العام، إلى البحث فيه.
مناسبة المقدّمة أعلاه، تكرار مظاهر المشاجرات الجماعية في المانيا وغيرها من دول اللجوء بين اللاجئين، والتي كانت الملاذ الآمن للسوريين، خصوصا بسبب الحرب، ولعموم الشرقيين والأفارقة. بل أخذت تلك المظاهر أبعاداً أعمق وأخطر، كطلب الفزعة والتكاتف العشائري في وجه طرف/ أشخاص آخرين حصلت بينهم مشادّات ومشاجرات، سواء بين أبناء البلد الواحد المقيمين في دولة أوروبية، أو بين اللاجئين من دول مختلفة، وسُجلت حالات اعتداء عديدة حتّى على رجال الشرطة والأمن الألماني في أثناء محاولتهم فضّ تلك الاشتباكات التي رُبما تعود، في مجملها، إلى خلافات حول أسباب شخصية، أو تحرّش بالنساء أو نتيجة التعاطي المفرط للكحول أو المخدّرات، أو الصراع على بعض الأعمال غير الشرعية والمحظورة في القانون الإلماني، والتي تدرّ أرباحاً جيدة، وذلك كله وفقاً لشهادات عديدة استمع إليها صاحب هذه المقالة، ممن أكّدوا أن غالبيتهم من أصحاب السوابق في البلد الأم أو المضيف، ويتنوّعون في تنشئتهم بين الحواضر الريفية، ومنهم من عاش في كنف المدينة عقودا قبل هجرته، مقابل أعداد كبيرة من السوريين الساعين صوب الاندماج والاستقرار في تلك البلاد.
ويُمكن بناء الفرضية بشأن إشكالية تطوّر الظاهرة العشائرية بين المهاجرين إلى أوروبا، وخصوصا السوريين منهم، عن دور البناء الاجتماعي في البلد الأم وعلاقته بالسلوكيات العنفية وصعوبة الاندماج مع المجتمع المضيف، سيما وأن قسما لا يُستهان به من "مُلبّي نداء الفزعة" يحملون سلوكا هويّاتيا عنفيا كشكل من أشكال الصراع الطبقي بين أبناء المجتمع المهاجر أنفسهم، وتجاه الآخرين أيضاً، وإن رد المشكلة إلى طبيعة أبناء المجتمع الريفي وحده باطلة وتحتاج براهين عديدة، رغم أنها موجودة، كما القول إن ظواهر الحسد والغيرة والصراع الطبقي تنتعش أكثر في الأرياف منه في المدن. لكن الكاتب يعتقد هنا إن إشكالية الصراع العشائري السوري في الدول الأوروبية ترتبط، قبل كل شيء، بالوعيين، المجتمعي والسياسي، وبإشكالات اقتصادية - طبقية واضحة. ولم تسجّل تلك الحوادث أو تشهد أيّ حالات عنف دفاعي للمطالبة بالحقوق السياسية أو المعيشية في وجه الحكومة الأوروبية الفلانية، ولم تشهد ألمانيا أو غيرها أيّ نظام إقصائي بسبب اللون واللغة والانتماء الهويّاتي، فالبرلمان الألماني والبلديات ومختلف المناصب المهمة، تشهد وجودا معقولاً لشخصياتٍ من خلفيات عربية وكردية سورية مختلفة. ولا تعود تلك الأزمة الطبقية إلى قوانين أو تمايز سلطوي للألمان عن المجنّسين الألمانيين أو أصحاب الإقامات الدائمة، بل إن الهويّات الاجتماعية والثقافية المكتسبة والمناهج المدرسية المطبقة في البلد الأم هي السبب الأساس، ولم تتغيّر ذهنيات مُهاجرين كثيرين وسلوكياتهم، بالرغم من كل المغريات والقوانين والتوجيهات الحكومية إلى إعادة تقويم سلوكيات الوافدين.
اقتناء سيارة فارهة، ولو بالديْن أو التقسيط، والارتياد الدائم على مراكز البذخ واللهو كمظاهر للفخفخة، تحوّلت إلى وجاهات وعمل رغبوي لتصدر رأس الهرم الاجتماعي
يعود بنا النفس العشائري المنتشر بين اللاجئين السوريين في ألمانيا إلى محاولة إحياء الحالة المشابهة لها في بلادنا سابقاً وحالياً، فالعائلات والعشائر ذات الإرث والتاريخ الوازن غالباً ما كانت تقوم بأدوار رادعة ومساعدة للقوانين الحكومية، كقضايا الإرث والأراضي الزراعية، والزواج والطلاق، والثأر والدم، وغيرها، وكانت تلك الجماعات غالباً ما تمتاز بعقل راجح وجرأة وكرم والقدرة على التضحية بالمال لفض الخلافات والمشكلات، وبعض مظاهر الترف، كالعقار المميز، ومركبة "موديل" حديث، وهي بطبيعة الحال لم تكن موجودة سوى لدى فئاتٍ قليلة، وتحوّلت تلك المظاهر إلى عامل تنظيم مجتمعي واضح، رغم السلبيات التي رافقتها. وفي نهاية الأمر، كانت غالبية المناطق في سورية عشائرية، خصوصا مع غياب ثقة المجتمع المحلي بالقضاء والقانون والعدالة الغائبة.
وفي البلاد الغربية، حيث القانون والقضاء والعدالة الحقوقية والاجتماعية، فإن بعض الأعمال الخاصة، كالتي تُعرف بــ"الشغل الأسود" غير النظامي، واقتناء سيارة فارهة، ولو بالديْن أو التقسيط، والارتياد الدائم على مراكز البذخ واللهو كمظاهر للفخفخة، تحوّلت إلى وجاهات وعمل رغبوي لتصدر رأس الهرم الاجتماعي، وبات الصراع مفتوحاً على مصراعيه بين تلك الشريحة، خصوصا من عانى مطوّلاً من فقدان تلك الوجاهة في بلده الأم، بينهم وبين أصحاب الوزن الاجتماعي ذي التأثير المديد والقوي في الوسط المجتمعي من جهة، ومن جهة ثانية بين أبناء العشائر والعوائل ذات الإرث التاريخي، والذين لا يتمتعون بذلك الوزن المالي في ألمانيا، وبين الفئات الرافضة كل مساعٍ خارج القانون الألماني والمحاكم وأوامر "البوليس" من جهة ثالثة. يؤدّي ذلك كله إلى إجهاض أي فرص للتأقلم والانسجام مع المجتمع الأصلي، وتمييع كل فرص الحياة المدنية والقانونية، وهي دعواتٌ وأفعالٌ لإنعاش الهويّات العشائرية الضيقة، وتمتين روابط ما قبل الدولة وما فوق القانون. وستجد تلك الهويّات مكانتها لدى أعدادٍ لا يُمكن الاستهانة بها، خصوصا أنها تمنح الآباء الوجاهة الاجتماعية التي طالما كانوا يُعلنون معاناتهم بسبب فقدانها أو صراعهم الطبقي مع أصحاب تلك الوجاهات في البلد الأم، وهذه التمظهرات الخطيرة والمخيفة إنما هي مقاومة للحداثة ورفضٌ للانصياع للقانون.
كانت غالبية المناطق في سورية عشائرية، خصوصا مع غياب ثقة المجتمع المحلي بالقضاء والقانون والعدالة الغائبة
ليست المشاهد الكثيرة للصلح العشائري في دول، مثل ألمانيا وفرنسا، تعد من الآباء الفعليين للقانون والديمقراطية والعدالة، ليست سوى توكيدات فعلية لغياب الوعي والالتزام بالقانون، وترسيخ مظاهر التخلف الاجتماعي والسياسي، ورفض لمفهوم الدولة قانونياً وحكم الديمقراطية والعدالة. والغريب أن التظاهرات والحراك الشعبي في سورية إنما جاءت ردّاً على غياب كل نماذج الديمقراطية، وحرّية الرأي، والانتخابات النزيهة، والمساواة أمام القانون، وغياب الرفاهية، فلماذا يرفضها السوريون في بلاد المهجر؟
يحتاج هذا السؤال، وأمثال له، تضافر جهود مختصين في الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والسياسة في محاولة للفهم العميق لهذا التخلف والتراجع الفكري والثقافي لسوريين كثيرين في مختلف الدول الأوروبية، من دون تعميم على الجميع، خصوصا مع زيادة عدد المتخرّجين السوريين من الجامعات الأوروبية، والذين اختاروا طريق الحياة المدنية والالتزام بالقوانين.