صمتاً... القتل في غزّة متواصل

18 نوفمبر 2023
+ الخط -

لولا الكاميرا لتمّت الجريمة من دون شهود ولا أدلة. ولولا فضائيات تلفزيونية معدودة لما تمكّن العالم من متابعة تفاصيل الحرب على غزّة وشراستها بشكل مباشر ومن دون رتوش لحظة بلحظة. لقد عاين الجميع حقد الصهاينة وحجم كراهيتهم كل الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال حتى لو كانوا خدّجا، الى جانب النساء والشيوخ. شعارهم "سكوت نحن بصدد القتل". ما يحدٌث وصفته صحيفة لوموند بـ"وباء الوحشية".

اختلف الأمر عن أمس، أصبحت الجريمة ثابتة، وقُبض على المجرم متلبسّا في أثناء تشغيل الكاميرا. لهذا دان المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان بشدّة اقتحام جيش الاحتلال الإسرائيلي مجمّع الشفاء الطبي بعد فترة وجيزة من قيامه بذلك، وأكد في الخصوص أن هذا الجيش حوّل المستشفى إلى ثكنة عسكرية ومركز "للاعتقال والتعذيب للمرضى والنازحين وفرق الرعاية الطبّية. إنه فيلم رُعب حقيقي.

كانت الرواية الفلسطينية تفتقر إلى أدلّة قطعية، هذا ما كان يدّعيه عتاة الصهاينة وحلفاؤهم. أما اليوم فالوحشية الصهيونية تنقل إلى عموم الناس على المباشر. ونظرا إلى ما تُحدثه تلك الصور الفظيعة في النفوس والعقول، تدخّل الشريك الأميركي في الجريمة من خلال الوزير بلينكن لدى دولة قطر، وطلب منها الضغط على "الجزيرة" حتى تحجب القدر الأكبر من الحقيقة، واصفا ما تبثّه القناة بـ"التحريض"، لكنه فشل في مسعاه، لتتجه النية بعد أيام نحو قناة الميادين التي أغلقت مكاتبها داخل فلسطين.

كانت 40 يوما من الصدمات المتتالية كافية لتبدأ الحركة المضادّة، ويصحو الضمير العالمي تدريجيا من سباته. بدأت بعض وسائل الاعلام تشعر بأن مصداقيّتها تتضرّر كثيرا بسبب انحيازها العلني لإسرائيل. تجلى ذلك في بريطانيا، حين انخراط بعضها في كشف الوجه الآخر من الصراع. وفي أميركا، حيث القوة الضاربة للوبي الصهيوني، وقّع أكثر من 750 صحافيا على رسالة مفتوحة تدين قتل إسرائيل الصحافيين في غزّة، وتنتقد تغطية الإعلام الغربي الحرب. وتضم الرسالة "موقّعين من وكالة رويترز وصحف لوس أنجليس تايمز، بوسطن غلوب، واشنطن بوست". كما أنها تعكس بوضوح "الانقسامات والإحباطات داخل غرف الأخبار". كانت صرخة قوية، بعد "طرد صحافيين في مؤسّسات إعلامية بسبب تبنّيهم مواقف سياسية عامة قد تعرّضهم لاتهامات بالتحيز".

31 مراسلا لوسائل إعلام مختلفة سفكت دماؤهم في غزّة والضفة الغربية بسبب القصف "العشوائي" الإسرئيلي. هم يقتُلون ولا يحاسَبون. وحتى عندما يتجنّبون اغتيال الصحافي مباشرة يقومون بتصفية عائلته بكاملها، مثلما فعلوا مع وائل الدحدوح، الزميل الذي منحه الله صبر أيوب حتى يتحمل فقدان زوجته وابنه وحفيده، ومعها يدفن جزءا كبيرا من ذاته وأحلامه، ثم يقف على قدميه ليواصل مهمته كشاهد على بربرية القرن الواحد والعشرين. وهكذا فعلوا مع مراسل تلفزيون فلسطين محمد أبو حطب الذي استشهد وكل أفراد أسرته.

خسرت دولة الاحتلال المعركة الإعلامية مثلما خسرت عسكريا وسياسيا ومخابراتيا. سقط القناع، وفقدت اللوبيات الصهيونية جزءا مهما من تأثيرها على النخب ومراكز النفوذ في العالم. أصبح الملك عاريا، وانطلقت الألسن لنقض الأكاذيب السخيفة الإسرائيلية، سواء في بريطانيا أو فرنسا أو في غيرها من العواصم. لم يبق يردّد مثل هذه الترّهات سوى الرئيس بايدن الذي نسي ما ذكره مكتبه قبل أسابيع، فكرّر، بتحدّ صارخ، أن "حماس" أحرقت الأطفال واستعملت المستشفيات والمرضى دروعا لها. إنه انهيار أخلاقي غير مسبوق في بلد كان في يوم بعيد سندا للشعوب المستعمرَة.

انطلقت معركة تحرير العقول من الأخطبوط الصهيوني، حيث تعدّدت المبادرات الشعبية المؤيدة للحقوق الفلسطينية في جميع القارّات. فرصة تاريخية لإعادة تشكيل الوعي الانساني الذي تعرّض للاغتصاب والتشويه والبلادة مدة لا تقل عن 90 عاما. هنا تكمن قوة الإعلام عندما يتبنّى قضية عادلة وينحاز اليها، ويجد نساء ورجالا يلتزمون بها، بعيدا عن التهريج والتضخيم والأوهام. المطلوب فقط توجيه الكاميرا نحو الوجهة الصحيحة.