صناديقنا وصناديقهم وإرادتنا المهدَرة
عاصفة من الانتقادات والمخاوف تسببت فيها فكرة إنشاء صندوق هيئة قناة السويس من أنه مقدّمة لمسار التخلي عن القناة، سواء بالاستغلال أو بيع بعض أصولها، تلك البدعة الجديدة التي استنّتها الإدارة المصرية منذ عام 2014، حيث أصبحت مصر غابةً من الصناديق. ومنها صندوق مصر السيادي للاستثمار والتنمية، المنشأ وفقا للقانون 177 لسنة 2018، على غرار الصناديق التي تأسّست في بعض الدول استثماراً لفوائضها المالية ولصالح شعوبها، وقبله صندوق "تحيا مصر" في القانون 84 لسنة 2015.
ولا يعرف أحد أين تذهب الحصيلة المالية لكليهما وكيفية وضع أولوياته ومراقبة إدارتهما، ولرئيس الجمهورية نقل ملكية أيٍّ من الأصول المملوكة للدولة أو لأي من الجهات التابعة لها إلى الصندوق أو أي من الصناديق التي يؤسّسها! وكلٌّ منهما يديره مجلس إدارة يعيّنه رئيس الجمهورية، ويحظر الطعن على تصرّفاته والعقود المبرمة إلّا من دائرة أطرافه المتعاقدة.
وفي هذا السياق، يذكر كثيرون جملة "سرقوا الصندوق يا محمد... لكن مفتاحه معايا" في أغنية مصرية في بداية القرن العشرين للشاعر بديع خيري، وفنان الشعب سيد درويش. ويبدو أنّ أصلها الشعبي أنّ أحد الحمقى سرق لصٌّ ما صندوقه أو خزانته التي تحمل شقاء عمره، لكنّه يقول هازئاً إنه يملك مفتاح الصندوق، وكأنّ اللص لن يستطيع فتح الصندوق لسرقة ما بداخله، ويبدو أن ما يحدث تكرار للحكاية نفسها.
الصناديق أنواع منها الذي يحظى بوضع دولي مرموق، رغم سمعته السيئة وبعضها الآخر كانت له نتائج إيجابية في حياة البشر
والصناديق أنواع منها الذي يحظى بوضع دولي مرموق، رغم سمعته السيئة وبعضها الآخر كانت له نتائج إيجابية في حياة البشر، فهناك صناديق فتحنا عيوننا عليها، وهي ترينا العالم الآخر الذي يدهشنا بتنوّعه، وهذا هو "صندوق الدنيا". وهذا ما حدث حين دخل التلفزيون حياة المجتمع المصري في منتصف الستينيات بعد سطوة الراديو والقنوات الإذاعية الخاصة عقوداً، إذ وصفه كثيرون بهذا الوصف الذي يريك ما يحدُث في العالم وأنت جالس في بيتك صوتاً وصورة. وكانت أسر مصرية تقتنيه عبر دفع أقساط شهرية، ولاحقاً كان يجلبه المصريون الآتون من بلدان الخليج، حتى تطور من جهاز ضخم إلى شاشة صغيرة.
هناك نوع آخر، وهو الذي يحمل رغبات المواطنين وإرادتهم في صنع مستقبلهم، وهو اختراع غربي أسهم في تقدّم بلدان الغرب، ويعكس الآلية الوحيدة البديلة للصراع العنيف في المجتمع، وهو "صندوق الانتخابات"، لكنّه تحوّل في الفهم العربي إلى مجرّد آلية شكلية لا تعكس أي مضمون، فبمقدور الحاكم إلقاء الصندوق الأصلي الذي يعكس الرغبات الحقيقية للشعوب، وإلقائها في الترعة على حد وصف توفيق الحكيم في روايته "يوميات نائب في الأرياف" ويستبدله بصندوق آخر مجهز مسبقاً، وفي عصور الاستبداد الحالية بات سهلاً أن تتغيّر النتيجة الحقيقية بأخرى تعلن عنها لجان يقال عنها زوراً إنّها مستقلّة، رغم أنّ هذه النتائج تتناقض مع كلّ المؤشّرات!
صندوق آخر يحمل جانباً خيرياً ودينياً، وهو مخصّص لتلقي أموال المسلمين في المساجد، سواء بعد صلاة الجمعة أو عند زيارتهم مقامات الأولياء للتبرّك والدعاء وطلب المساعدة في شؤون دنياهم وأموال الزكاة، كما يحمل أيضاً ما يخصّصه الناس من نذور مالية، في حال تحققت أمنيةٌ معينةٌ لهم، إذ يتبرّع بهذا المال إلى ما يسمّى "صندوق النذور" وتعرّضت بعض هذه الصناديق للسرقة، وحديثاً تدخلت الدولة بالسيطرة على إدارة أموال هذا الصندوق والإشراف عليها.
صندوق ثالث كان أحد وسائل التواصل عبر تبادل الرسائل المكتوبة بخط اليد بين البشر قبل انتشار البريد الإلكتروني عبر الإنترنت، وهو صندوق البريد، ليضع المرسل الخطاب الخاص به، إذ يجمع سعاة البريد هذه الخطابات وينظمونها ويرسلونها إلى المرسل إليهم خارج البلد أو داخله، مقابل سعر الطابع الذي يلصق على الخطاب. وقد انقرضت تقريبا هذه الرسائل المكتوبة.
أصبح صندوق النقد الدولي قبلة حكام العالم الثالث الفاشلين في إدارة شؤون بلدانهم، طلباً للاستدانة مقابل فوائد مالية ضخمة
وهناك نوع آخر ينقل تفاصيل ما حدث بين الطيار وطاقمه قبل سقوط الطائرة أو حدوث أي شيء غير عادي وكارثي بها، وهو "الصندوق الأسود"، وهو صندوق يوضع في كابينة الطائرة، ويجري فتحه في أثناء التحقيق في حوادث سقوط الطائرات، وهو مصمّم من مادة تحتفظ بما فيه، ولا يتعرّض للتلف. وهو جهاز تسجيل برتقالي أو أصفر اللون، يجب أن يكون موجوداً في كل طائرة خاصة بالرحلات التجارية، حيث يسجل معلومات خاصة بالرحلة وظروفها في أثناء الطيران، واعتقد بعضهم أن سبب تسميته قول صحافي في مقابلة مع مبتكره "هذا صندوق أسود رائع". وأخذت مصر حديثاً هذه التسمية لبرنامج يتضمّن إذاعة تسريبات صوتية بين سياسيين ونشطاء ثورة يناير، بغرض التشهير بهم، وهو ما يمثل جريمة في حد ذاته، فمن غير القانوني السماح بتسجيلاتٍ من دون إذن قانوني من النيابة العامة، وكان يقدّمه عبد الرحيم علي، وهو أحد الإعلاميين المقرّبين من أجهزة الدولة.
وهناك أبو الصناديق، وهو صندوق النقد الدولي الذي بدأ عمله عام 1945 في مؤتمر بريتون وودز، ثم بدأ وجوده الرسمي في 1956، عندما أسس بهدف إعادة هيكلة النظام المالي الدولي. وأصبح هذا الصندوق قبلة حكام العالم الثالث الفاشلين في إدارة شؤون بلدانهم، طلباً للاستدانة مقابل فوائد مالية ضخمة، تمثل عبئاً على اقتصادات بلدانهم، كما أصبح أداة للتحكّم والهيمنة على موارد العالم الثالث. وقبله كان صندوق الديْن الذي كان يشرف عليه وزيرا المالية الفرنسي والبريطاني في عهد الخديوي إسماعيل باشا، وأسس في العام 1876، للإشراف على سداد الحكومة المصرية ديونها للحكومات الأوروبية، حتى انتهى الأمر بالاحتلال البريطاني عام 1882.
المشكلة أنّنا - نحن المصريين (وبقية العرب ربما) - أخذنا هذه النماذج من الغرب، لكن مع تغيير هدفها الأساسي، من هدف مشروع يعمل بموجبه لمصلحة المواطنين، ويعكس اختياراتهم الحقيقية، بديلاً لفكرة الفوضى والصراع بين قواه المختلفة، ولتحقيق دولة الرفاه، لكنّنا طبقناها في سياق السيطرة على موارد المجتمع المختلفة وهيمنة أفراد وحكام على مقدّرات هذه الأوطان في غياب رقابة الأجهزة المستقلة، والتي أنشئت في هذه الدول بعد استقلالها السياسي عن المستعمر. وتناسينا الفلسفة الأساسية وراء إنشاء هذه الصناديق، واستخدامها لصالح المواطنين وكيفية الرقابة على تصرّفاتها وتصرّفات أجهزة الدولة من برلمان حرّ يستطيع تطبيق أدواته الرقابية والبرلمانية، وليس خاضعاً لإرادة السلطة التنفيذية، وأجهزة متخصّصة في مكافحة الفساد، وقضاء مستقل يستطيع إبطال القرارات والقوانين المخالفة لمبدأ المشروعية، وتطبيق صحيح لنصوص الدستور، وإعلام ومجتمع مدني يتمتعان بالحرية.