صناعة القامات
اتصل بي يريد مناقشة مشروع مشترك في الميديا كما يحب تسميتها، وأكد أن المشروع سيدرّ علينا ربحا وفيرا. ولأن هذا لم يكن المشروع الأول الذي يطرحه صديقي هذا عليّ، لم أعوّل على كلامه، لا في ما يخص مشروع الميديا، ولا في ما يخص الأرباح التي يطمرنا في كل حديث يتحفنا به، ولكنني، في كل الأحوال، كنت سأذهب إلى المقهى من أجل تغيير الجو قليلا. وجدته ينتظرني قرب المقهى تحت إبطه مصنّف بلاستيكي أزرق، مغلق بمطّاطة، وكان شكله يبدو منفّرا في الجاكيت سكرية اللون، المقطّعة إلى مربعاتٍ، والتي كان يرتديها فوق بنطال بني، حثّ الخطى نحوي مصافحا وقال معتذرا:
ـ انتظرتك هنا لكي لا تدخل إلى المقهى فلا تجدني، لأن عندي عملا صغيرا في التلفزيون.
ـ لا مشكلة قم بعملك وعد. أنا أنتظرك في القهوة. .. قلت له فقال:
ـ لا .. لا، نذهب إلى التلفزيون معا. من جهة أنا أتشجع. ومن جهة أخرى أنت قد تستفيد بمشروع ما مع التلفزيون، فإذا ارتبط اسمك بتلفزيون أجنبي سترتفع أسهمك عندنا في البلد، سواء في مجال الميديا أو على صعيد الجمهور. سيقولون عنك "لا نبي في وطنه" أو "مزمار الحي لا يُطرب".
قهقه بشكلٍ يدلّ على أنه أعجب بما قاله، ثم استرسل في حديثٍ دقيقٍ عن أهمية تضليل الرأي العام في صناعة القامات الوطنية. وعلى الرغم من أنني أكره فلسفته هذه، فقد تمكّن تحت الضغط والتوسل الذي لم أدرك سببه منه، تمكّن من جعلي أذهب معه. وفي مكتب مدير التلفزيون، كما يفعل جميع الفنّاصين، كان صديقي هذا قد جهز الأجواء مسبقا، فاستُقبل استقبال كبار رجال الأعمال، حيث رحب بنا المدير الذي كان بدوره يعوّل على صديقي في مشروع ما على ما يبدو، فدعانا إلى مكتب الاجتماعات المصغّر، وقدّم لنا مشروبا ساخنا وهديتين تذكاريتين: مفكّرتان عليهما اسم التلفزيون، تحتويان في قلبيهما على قلمين كتب عليهما اسم التلفزيون أيضا. ثم افتتح صديقي الحديث في الموضوع، فأشار إليّ معرّفا أكثر، وقال من دون أن تهتزّ شعرة في بدنه:
ـ صديقي فلان حاصل على أربع عشرة جائزة عالمية في الأدب والدراما. ..
لم أعرف ولن أعرف أبدا لماذا اختار صديقي الفنّاص الرقم أربع عشرة، ولكنني حينها كدت أقفز من مكاني، وأولّي الأدبار، قبل أن يسألني مدير التلفزيون عن تلك الجوائز، ولكن ذلك، لحسن حظي، لم يحدُث. .. استمرّ الحديث بطريقةٍ يخال فيها المستمع صديقي الفنّاص كما لو أنه إمبراطور الصحافة، روبرت مردوخ. بعد ذلك، ودّعنا مدير التلفزيون إلى باب مكتبه وانصرفنا، ثم كان أول ما فعلته أنني صرخت في وجهه: كيف تخرط هذه الخرطة؟ افترض، يا أخي، أنه سألني عن تلك الجوائز التي حصلت عليها، من أين سأستحضر له أسماء أربع عشرة جائزة؟ .. فابتسم صديقي الفنّاص بثقة، وقال: ـ وهل كنت سأتركك تردّ لو أنه سألك؟ كنت سأجيبه، أعرف أنك سترتبك وتفضحنا ..
ختم الحديث بضحكة طحلبية، وودّعته على أمل ألا تجمعني المصادفات به مرة أخرى.. بعد ستة أشهر تقريبا، رن جرس هاتفي، فألقى عليّ التحية من سماعته شخصٌ عرّف عن نفسه بأنه مسؤول العلاقات العامة في التلفزيون، وأخبرني أنه حصل على هاتفي من صديقي الفنّاص، ودعاني إلى المشاركة في ندوة تلفزيونيةٍ، رشّحني إليها مدير التلفزيون. كان ذلك من دواعي سروري بطبيعة الحال.
في الندوة التي كنت أجلس خلف منصّتها، عرّف عني المقدّم بمعلوماتٍ كان يقرؤها من ورقة زوّد بها، وذكر الجوائز، ولكنه أخطأ في العدد، فبدلا من أن تكون أربع عشرة جائزة صارت خمس عشرة. هكذا تُصنع القامات، قال لي صديقي الفنّاص الذي كان في القاعة، ثم لم تُجد محاولاتي في إنكار تلك الجوائز نفعا، لأن الصحف ذكرت ذلك، والمعلومة ترسّخت في لاوعي الناس، ثم تعوّدت أنا على ذلك، لكن أمرا لا يزال يؤرّقني: ماذا سأقول إن سئلت عن تلك الجوائز.