صنعاء .. النّيْل من عاصمة اليمنيين
في الحروب، تواجه المدن جملة من التغييرات القسرية المفروضة من الأعلى، أو نتيجة حركة المجتمع، بحيث قد تطاول بنيتها، ووظيفتها، إذ ينتج عن سقوط الدولة المركزية ليس فقط تشظّي المجتمعات المحلية، وصعود هويات ما دون وطنية، وإنما تمسرح المدن، بحيث تصبح مجالا بلا ناظم، فبعد أن كانت الدولة المركزية تُخضعه لهويتها الوطنية، ترث سلطات الأمر الواقع هذا الفضاء، وتعيد إنشاء المدن على هويتها. في اليمن الذي يشهد حربا طاحنة منذ أكثر من سبع سنوات، أثرت الحرب على المدن بقدر تأثيرها على حيوات البشر، بما يتجاوز تدمير البنية التحتية والمنازل السكنية والمؤسسات إلى تدمير أعمق، يختلف وفقاً لتموضعها في معادلة الحرب، كمدن مواجهات بينية أو مركز الثقل السياسي للقوى المليشياوية والسياسية، أو كمناطق نزوح، بحيث استطاعت هذه القوى المحلية إضفاء صبغتها على المدن التي أخضعتها، وأثرت على مختلف مجالات الحياة فيها، بما في ذلك تدمير هياكلها التاريخية واستبدالها بهياكل جديدة.
لا تختلف التغيرات القسرية التي طاولت العاصمة صنعاء عن بقية المدن اليمنية الأخرى، إلا من حيث أنماطها، وطبيعة القوى السياسية المهيمنة، وما فرضته من تغيراتٍ اجتماعية وسياسية وعسكرية وديموغرافية ودينية على المدينة، بما في ذلك إزاحتها سياسياً، وما تبعها من حالة إفراغ متعدّد الأوجه، فضلاً عن زجّها في معادلة الصراع، بما يحمله ذلك من تبعات تتجاوز سوء الفهم إلى التصنيف. وفي هذا السياق، شكل سقوط صنعاء، في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، حداً فاصلاً بين وظيفتها عاصمةً وواقعها الحالي، إذ يتجاوز إسقاط جماعة الحوثي العاصمة تأثيره الكارثي على السياق السياسي بأبعاده التدميرية في المشهد الوطني إلى التغيرات القسرية التي طاولت المدينة، حيث تعرّضت صنعاء سبع سنوات لتغيرات عديدة، فإضافة إلى الإزاحات البشرية التي ترتبت على حملات التهجير الدورية التي مارستها الجماعة على خصومها واستقدام وافدين جدد من معقلها الجغرافي، بما في ذلك حركة النزوح التلقائية من مناطق المواجهات إلى المدينة، استهدفت البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمؤسسية العاصمة؛ فبعد إزاحتها كل القوى السياسية، بما في ذلك حلفاؤها الأقربون، ممثلين بالرئيس السابق، علي عبدالله صالح، بسطت جماعة الحوثي سيطرتها على العاصمة، بحيث دمّرت المؤسسات الوطنية، وجرفت البيئة الحيوية لصنعاء عاصمة، فضلاً عن فرضها أشكال التصحير السياسي والثقافي، وأيضا هويتها الدينية على الفضاء الاجتماعي.
استهداف صنعاء في الوقت الحالي يتخذ معنى أعمق ومتعدّد الوجوه، ولا يقتصر على تقويض مظاهر التحديث
تمثل إزاحة صنعاء عن موقعها الوظيفي عاصمة سياسية أحد التغيرات التي طاولت المدينة، وأثرت على أوجه الحياة اليومية، بحيث يترادف تفكيك البنى السياسية المستقرّة مع التفكيك المؤسسي والوظيفي والاجتماعي والجمالي، فمن جهةٍ أثرت الهوية الدينية لجماعة الحوثي على مركزية صنعاء عاصمة، إذ إن احتكامها إلى تراتبيتها التنظيمية التي تركز السلطة السياسية والدينية في يد زعيم الجماعة، عبدالملك الحوثي، ومدينة صعدة، كمعقلها الجغرافي ومقر مرجعيتها الدينية، أدّى إلى نقل السلطة إلى مدينة صعدة، مقابل فقدان صنعاء مركزيتها عاصمة، وإنْ حرصت الجماعة على استثمار بقايا أشكال الدولة في صنعاء للسيطرة على الإيرادات، بما في ذلك تغيير تركيبتها الديموغرافية لأغراضٍ سياسية. ومع أن سياسة الجماعة في إزاحة صنعاء عاصمة سياسية تتقاطع مع تقاليد أسرة الأئمة التي حكمت شمال اليمن في فترات تاريخية سابقة، حيث أقامت في معاقلها الدينية التي تحولت إلى عاصمة، مقابل تهميش صنعاء، ثم أباحتها للنهب جائزة لحلفائها من قبائل الطوق، فإن استهداف صنعاء في الوقت الحالي يتخذ معنى أعمق ومتعدّد الوجوه، ولا يقتصر على تقويض مظاهر التحديث الذي مرّت به العاصمة وتحويلها إلى ساحة للنهب المنظّم، وإنما تدمير المؤسسات التاريخية وتفريغ صنعاء من كل مقوماتها عاصمة.
إسقاط صنعاء لم يكن سوى إسقاط للمؤسسة الرئاسية ببعديها، السياسي والوظيفي، بما في ذلك رمزيتها في أذهان اليمنيين
تتكشف الإزاحة السياسية لصنعاء عاصمةً بمظاهر أخرى موازية، تكمن في تفتيت المؤسسات الوطنية، ليس فقط نتيجة للكيانات البديلة التي أنشأتها الجماعة، والتي لا يقتصر ضررها على تعطيل المؤسسات، بل تدميرها المنهجي الوظيفة التاريخية لهذه المؤسسات. وواقع المؤسسة الرئاسية مثال للتفتيت المؤسسي والسياسي، إذ إن استبدال جماعة الحوثي هيكل السلطة التقليدي، ممثلاً بالمؤسسة الرئاسية، بإنشاء تكوينات سياسية طارئة تدعم انقلابها، أزاح مؤسسة الرئاسة مركزا لصنع القرار، إضافة إلى تشوّهات البديل السلطوي التي لا تقتصر على طبيعة المجلس السياسي الأعلى لجماعة الحوثي وتركيبته وطريقة تعيين أعضائه، وإن حاولت إضفاء تمثيل شكلي في السلطة من القوى المتحالفة معها، بل على مضامينه السياسية، وأدائه الذي يمثل إفراغا للسلطة، حتى بحدّها الأدنى للنماذج التقليدية لجماعات ما قبل الدولة. ومن جهة أخرى، ركّزت جماعة الحوثي سياستها نحو تفكيك المؤسسة الرئاسية، كونها مركز القرار السياسي ممثلاً برئيس الجمهورية، إذ إن إسقاط صنعاء لم يكن سوى إسقاط للمؤسسة الرئاسية ببعديها، السياسي والوظيفي، بما في ذلك رمزيتها في أذهان اليمنيين، وذلك بتجريف الوظيفة السياسية للقصر الرئاسي، رمزا لجمهورية يمنية رئاسية، ونقل سلطته إلى زعيم الجماعة. في المقابل، استهدفت الجماعة مؤسساتٍ لا تقل أهمية عن المؤسسة الرئاسية، وتأتي مؤسسة السلطة التنفيذية، ممثلةً برئاسة الوزراء، في مقدمتها، فإضافة إلى إفراغها من وظيفتها التنفيذية، بتهميش سلطة رئيس الوزراء، وتحويله هو والوزراء إلى مجرّد موظفين معينين من الجماعة، واستبعادهم من الإشراف على مؤسسات الدولة، إلى فرض اللجنة الثورية برئيسها وموظفيها المشرفين كسلطة عليا تدير المؤسسات، يوازي ذلك تدمير المؤسستين القضائية والأمنية، إضافة إلى استهداف مؤسّسات الدولة الذي يتعدّى تفتيتها إنشاء هياكل بديلة تعمل من داخلها، إلى نقل وظيفة الجهاز الإداري للدولة إلى مشرفي الجماعة. يضاف إلى ذلك موظفو الأجهزة التي أنشأتها الجماعة، بدلا من الجهاز الرسمي للدولة. هذا الانتقال الاعتسافي من سلطة المؤسسات الرئاسية والتنفيذية والقضائية الوطنية إلى هياكل مشوهة، ومنها إلى زعيم الجماعة، أي من صنعاء، برمزيتها السياسية التاريخية كعاصمة، إلى نموذج مدينة صعدة، أكمل في الأخير انتقال السلطة إلى الجامع، برمزيته الحاكمة، ممثلاً بزعيم الجماعة، وممثليه من أئمة الجوامع والخطباء.
نجحت جماعة الحوثي في مأسسة الجامع، وحوّلته في سيطرتها على صنعاء إلى سلطةٍ عليا لا يمكن تعيينها
نقل السلطة السياسية والمجتمعية إلى الجامع إحدى النتائج العميقة التي قوّضت مظاهر الحياة في صنعاء عاصمة لليمنيين، إذ نجحت جماعة الحوثي في مأسسة الجامع، وحوّلته في سيطرتها على صنعاء إلى سلطةٍ عليا لا يمكن تعيينها، تماماً كسلطة زعيم الجماعة الذي يوجه هياكل الجماعة في إدارة الدولة من خلف شاشة، إذ نتج عن ذلك تكريس سلطة دينية موجهة احتكرت المجال الديني، وصادرت الفضاء الاجتماعي، والذي اتخذ أشكالا عدة، من إغلاق المقاهي واستهداف حرية النساء وأعمالهن، وتنمية سياسة العزْل بين الجنسين في الجامعات، إلى استهداف الحريات الشخصية، ومن ثم تحوّل الجامع إلى رقيب اجتماعي وديني على المواطنين، فضلاً عن فرض الهوية الدينية للجماعة في المدرسة والجامع، أي استهداف القيم المجتمعية لصنعاء عاصمةً للتنوع. يوازي ذلك استهداف الجماعة هوية المجتمع الصنعاني، وذلك بتدمير آخر حلقاتها، ممثلاً بتجريم التقاليد الاجتماعية في احتفالات الأعراس في شوارع المدينة، والذي لا يستهدف فقط تحريم الغناء، بمنظومة تجريمها التي حدّدت وقت الغناء في القاعات، وحملة اعتقالات طاولت مطربين في مدينة صنعاء وغيرها، إلى تفريغ الشارع الصنعاني من تقاليده التاريخية كفضاء حر. ومع استهدافها الفنانين الشعبيين في صنعاء، فرضت المنشدين الدينيين، وهو ما يشكل سياسة موجهة، لا تستهدف تدمير أنماط الحياة اليومية في صنعاء فقط، وإنما استهداف الشارع الذي خضع هو الآخر لتحوّلات قسرية؛ بدأ من تطييفه إلى تحويله منصة دينية، ويتمظهر ذلك بالطقوس الشعائرية التي تقيمها الجماعة باحتفالاتها الدينية التي تفرضها على المدينة، بحيث تمتزج في الشارع قيم المجتمع الديني في القرون الوسطى، ليصبح الشارع فضاءً دينيا مغلقا، حيث يقود الاحتفالات الدينية الخطيب بحيث تنتهي الفعاليات في الجامع، فضلاً عن فرض جماعة الحوثي شعاراتها الدينية والطائفية على واجهات المباني وجدران المنازل، وإزاحة الجمالية التي كانت تميز مباني صنعاء وعمارتها.
مقابل احتكار جماعة الحوثي أشكال الفعل السياسي في صنعاء، أفرغت كل المؤسسات الرقابية والمجتمعية والسياسية والتشريعية من وظيفتها ودورها المجتمعي
إلى ذلك، يمثل تقويض صنعاء بوصفها مركزا للنشاط السياسي في اليمن الوجه الآخر للتدمير الذي تعرّضت له، وإن كان هذا إحدى نتائج القبضة الأمنية للجماعة، إلا أن مصادرتها الهامش السياسي الضئيل تتعدّى ممارسات سلطات الأمر الواقع في المدن اليمنية الأخرى؛ ففي مقابل احتكار الجماعة أشكال الفعل السياسي في صنعاء، من الجماهيري إلى السلطوي، فإنها أفرغت كل المؤسسات الرقابية والمجتمعية والسياسية والتشريعية من وظيفتها ودورها المجتمعي، فإضافة إلى تقويضها سلطة مجلس النواب - فرع صنعاء، كسلطة تشريعية، ونقلها السلطة داخل المجلس إلى أعضائها المعينين، ليضمن لها التحايل على خصومها وعلى مرجعياتهم الشرعية، وإن كان ذلك غير قانوني، فإن الجماعة حكمت صنعاء وفق حالة الطوارئ، وإنْ بدت غير معلنة، حيث ألغت كل مظاهر الحياة السياسية التي تتعدّى قمع المعارضين السياسيين وحملات اعتقالهم إلى تجريد الأحزاب اليمنية من وظيفتها الرئيسية بالانخراط في العمل السياسي ومراقبة أداء السلطة، بل حرمتها من الحد الأدنى من التعبير، كإقامة فعالياتها، ومن ثم عطّلت الجماعة هذه الأحزاب، وأفرغت مقرّاتها من أي نشاط وفاعلية، بحيث انحصر الفعل السياسي للأحزاب في المناسبات الاجتماعية، كـ"مقايل القات" الأسبوعية وقاعات الأعراس، ليصبح الفضاء السياسي المتاح والوحيد في مدينة صنعاء.
النهب والتدمير اللذان تشهدهما صنعاء اليوم أقسى وأبشع من دورات الإخضاع والإحلال والتجريف والإباحة في تاريخها المعاصر
أمام هذه الأشكال التدميرية المتعدّدة التي طاولت مدينة صنعاء، بدت الكيانات الاقتصادية الموازية التي أنشأتها جماعة الحوثي لا تعمل على تدمير الاقتصاد الرسمي للدولة فقط، بل حوّلت المدينة إلى عاصمة للسوق السوداء في اليمن، ومن ثم نجحت، في سيطرتها على صنعاء في إفراغها من كل مقوماتها كعاصمة، مقابل تكريسها في حربها ضد خصومها، حيث حوّلتها إلى منصّة لإطلاق الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة على مدينة مأرب وغيرها من المدن اليمنية، وقتلها المدنيين، بحيث زجّت صنعاء في صراعها العبثي، وأدّت إلى إباحتها لغارات المتدخلين.
في الحياة اليومية لصنعاء، قوّضت جماعة الحوثي كل مظاهرها عاصمة للدولة المركزية، بما في ذلك محاولة فرض اللون الواحد على مجتمع متنوع، ومن ثم تجريدها من إرثها التاريخي عاصمة لليمنيين. وفي معادلة الحرب، تم إقحامها في صراع الفرقاء، وإنْ حملت تبعات كونها عاصمة الدولة المدمّرة، تتصارع الأطراف على السيطرة عليها، إلا أنها مثل معظم العواصم، تُحكم من خارجها، حيث يتم الزحف عليها لإسقاطها في دورات تاريخية متعاقبة، ما جعلها هدفا لأشكال النهب والتدمير، وإن بدا النهب والتدمير اللذان تشهدهما اليوم أقسى وأبشع من دورات الإخضاع والإحلال والتجريف والإباحة في تاريخها المعاصر.