صنع في الصين
من دون سابق إنذار، دخلت الصين الحيّز السياسي العالمي من باب الوساطات الإقليمية والدولية، وطرحت نفسها لاعباً سياسياً مؤثراً عالمياً، وهو دور جديد، عملياً، على العملاق الأصفر الذي كان يكتفي في الفترة الأخيرة بالدور الاقتصادي، باعتباره بوابة السيطرة والتمدّد عالمياً، وكان ناجحاً إلى حد بعيد، تحديداً في أفريقيا التي تضاعف النفوذ الصيني فيها خلال السنوات الماضية.
يبدو اليوم أن الصين تتّجه إلى محاولة لعب دور جديد، عبر فرض نفسها طرفاً دولياً فاعلاً، والدخول في مساعي حل النزاعات. الخطوة الصينية الأولى في هذا المجال كانت في الاتفاق الذي نجحت في إبرامه بين إيران والسعودية، وما يمكن اعتباره إنهاء للقطيعة الدبلوماسية التي كانت قائمة بين البلدين منذ نحو سبع سنوات. نجاح مرتبط إلى حد كبير في رغبة الطرفين، كل لأسبابه، في التخفيف من وتيرة الخلاف بينهما، فالسعودية بالدرجة الأولى عانت، وما زالت تعاني، من تداعيات حرب اليمن، والتي وصلت إلى الأراضي السعودية عبر قصف "أرامكو"، والذي تقف وراءه إيران، رغم عدم إقرارها بذلك، وهي ترغب في تجنّب تكرار حادثة كهذه، إضافة إلى رغبتها في إغلاق ملف حرب اليمن الذي استنزف المملكة لما يقارب عشر سنوات.
في المقابل، لدى إيران أسبابها لخفض التوتر مع السعودية، خصوصاً بعد الاحتجاجات الأخيرة في البلاد والتي أثرت كثيراً على قدرة الدولة على فرض قوانينها الإسلامية على غرار ما كان عليه الأمر في السابق، وتحديداً في ما يتعلق بإلزامية ارتداء الحجاب، والذي نجح المحتجّون الإيرانيون إلى حد كبير في فرض أمر واقع يتحدّى هذه الإلزامية، وهو ما يمكن ملاحظته بوضوح خلال التجول في شوارع طهران. ولا شك في أن مسؤولي الدولة يلاحظون هذا الواقع الجديد، ويرون فيه كرة ثلج قد تتدحرج إلى ما هو أكبر في حال اندلاع أي احتجاجات مماثلة للتي كانت قائمة قبل أشهر، والتي تتهم طهران الرياض بتغذيتها. كذلك فإن طهران، وفي ظل انغلاق أفق التفاهم مع الولايات المتحدة في ما يخصّ الاتفاق النووي، تحتاج إلى فتح باب لتحسين العلاقة مع الجوار لتعويض آثار العقوبات الأميركية، وهو ما أبدت السعودية استعدادها للقيام به عبر حديث وزير المالية محمد الجدعان عن إمكان الاستثمار السعودي في إيران فور تطبيق الاتفاق بين الطرفين الذي أبرم برعاية صينية.
لكن إلى أي مدى يمكن لهذه الصناعة الصينية أن تصمد وتحقق مبتغاها؟ سؤال لا بد من طرحه بالنظر إلى تشابك ملف العلاقات الإيرانية السعودية، ودخول الكثير من الأطراف على خطّه. وهذه الأطراف، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لا تنظر بعين الرضى إلى الدور الصيني الجديد، سواء في ما يخص السعودية وإيران أو الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي تحاول الصين أيضاً لعب دور وسيط فيها عبر تقديمها مبادرة لإنهاء الحرب. مبادرة رأت الولايات المتحدة بشكل علني وصريح أنها "ستكون في صالح موسكو"، وبالتالي رفضتها مسبقاً.
لن يختلف الأمر كثيراً في ما يخصّ الاتفاق السعودي الإيراني، بل من الممكن أن يكون الوضع معقداً أكثر من الحرب الروسية على أوكرانيا، خصوصاً مع وجود العقوبات الأميركية الكبيرة المفروضة على إيران، والتي يمكن أن تطاول السعودية في حال مضت العلاقة في مسار اقتصادي. إضافة إلى ذلك، فإن ملفات الخلاف الكثيرة بين إيران والسعودية لا يمكن حلها من دون دخول مباشر للولايات المتحدة في الأمر، فبنود مثل دور حزب الله أو النفوذ الإيراني المتعاظم في المنطقة لا يمكن تسويتها من دون أن تكون واشنطن طرفاً مباشراً، خصوصاً أن طهران تريد مقابلاً أميركياً وليس صينياً في هذا المجال.
ربما من المبكّر الحكم على الاتفاق الإيراني السعودي الآن، لكن من قراءة تشابكات السياسة الدولية، يمكن القول إن من السابق لأوانه أن تنجح هذه الصناعة الصينية.