صهيونية ليمكين... صائغ مفهوم جريمة الإبادة الجماعية
لأول مرة منذ 75 عاما على قيامها، ستَمْثُل إسرائيل أمام العدالة الدولية لمحاولة دحض تهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحقّ الشعب الفلسطيني، التي تجرّأت جنوب أفريقيا على توجيهها لها، كسرا لصمت باقي حكومات العالم. ستعمل الدولة المارقة جاهدة على منع محكمة العدل الدولية من إصدار أمر بالوقف الفوري للأعمال العسكرية في قطاع غزّة إلى حين انتهائها من النظر في القضية. لكن ما تخشاه إسرائيل أكثر هو الانهيار الكامل لسردية المظلومية التي تستمدّ منها شرعيتها، بعد أن وظّفت محرقة اليهود في الحرب العالمية الثانية (هولوكوست) لأسطورةٍ مفادها بأن نشأة إسرائيل تعدّ في حد ذاتها شكلا من أشكال تعويض حقوقي للمجتمع الدولي عن المحرقة، وأن إسرائيل ما زالت تواجه خطر الإبادة الذي تجسّده تهديدات حركة حماس بمحوها من الخريطة، وأن الفضل في صياغة مفهوم الإبادة الجماعية والاتفاقية الدولية لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948) ذاتها يعود للمحامي اليهودي البولندي، رافائيل ليمكين، الذي طوّر المفهوم استجابةً لجرائم المحرقة، ما يؤكّد دور اليهود في إرساء منظومة القانون الدولي وحقوق الإنسان، واستحالة أن يكون اليهودي، الضحية المطلقة وبطل حقوق الإنسان، جلادا وجانيا في الوقت ذاته.
مشكلة هذه السردية المتآكلة أنها تتلاعب بالحقائق والوقائع التاريخية التي تؤكّد أن الإعلان عن وعد بلفور في عام 1917 بإنشاء وطن لليهود في فلسطين سبق المحرقة بكثير، وأن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين قام، منذ نهاية القرن التاسع عشر، على أساس مشروع إبادة الفلسطينيين التي يلخّصها شعار الصهيونية، بشقّيها المسيحي واليهودي: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". لا تتوقّف مغالطات السردية الصهيونية عند هذه الحد، بل تشمل خلفية رافائيل ليمكين ذاته، فالرجل الذي اشتهر بصياغته مفهوم الإبادة الجماعية، والأب الروحي لاتفاقية منع الإبادة والمعاقبة عليها، كان ناشطا صهيونيا قبل كل شيء، ويجسّد استحالة التوافق بين الصهيونية ومنظومة القانون والحقوق والحريات الأساسية.
في ورقة نشرت له في مجلة أبحاث الإبادة الجماعية (2017)، تحت عنوان "Becoming Cleopatra: the forgotten Zionism of Raphael Lemkin"، يكشف الأكاديمي الأميركي جيمس لوفلير صهيونية ليمكين التي تفاخر بها قبل مغادرته بولندا إلى أميركا عام 1941، ليدفنها في المهجر، حتى لا تشوّش على صورة نموذجية رسمها لنفسه، باعتباره نموذجا لليهودي الناجي من المحرقة، الحقوقي الذي سيسخّر حياته في أميركا للتعريف بـ "جريمة الجرائم"، وتجريمها في القانون الدولي عبر اتفاقية عالمية مُلزمة.
لم يكن ليمكين صهيونيا فحسب، بل كان مناضلا فاعلا في الحركة الصهيونية، إذ شارك في 1928، في إعادة تنظيم "المجتمع الصهيوني في وارسو" بقيادة جنرالات في الحركة الصهيونية
استنادا إلى كتابات ليمكين في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، يرسم لوفلير "بورتريه" مغايرا لليمكين، يُبرز ملامح الناشط الصهيوني الحماسي الذي انضمّ في عام 1926 إلى "ياردينيا"، منظمة الطلاب الصهيونية، خالطا فيها شخصيات قيادية صهيونية مثل موشيه سنيه (كلاينباوم)، إسحاق غرينباوم ويوسف شوفمان، ستلعب دورا بارزا في دولة إسرائيل لاحقا. ولاشتهاره في الوسط الصهيوني، اختير في العام التالي لإلقاء خطاب باسم الشبيبة الصهيونية، بمناسبة زيارة الصهيوني المسيحي البريطاني، الجنرال ويندام ديديس، وارسو. والأهم، أن ليمكين عمل، في هذه الفترة المحورية والمجهولة من حياته، كاتب عمود في مجلة تُدعى "العالم الصهيوني"، واشتُهر بسجالاتٍ في مواضيع تخصّ اليهود، وتدعو إلى توحيد الحركة الصهيونية بالعودة إلى مبادئها الخالصة حسب تصوّر مؤسّسها ثيودور هرتزل. يوضح ليمكين الصهيوني الأصولي في مقالاته أن "الصهيونية تتكون من فكرة الدولة اليهودية، وتتطلّع إلى إنشاء دولة يهودية بكل مكوناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية"، مضيفا إن الدولة الصهيونية تتكوّن من ثلاث ركائز: "الأرض والشعب والسيادة السياسية".
تخلّلت ورقة لوفلير عن صهيونية ليمكين المنسيّة اقتباسات من أعمدته يحثّ فيها اليهود الصهاينة على تكريس أنفسهم، روحا وفكرا وقلبا، لـ "الدولة اليهودية في طور التأسيس" في فلسطين، بالتعالي على خلافاتهم الثانوية بشأن الدين أو الصراع الطبقي للتركيز على الهدف الرئيس: تحقيق "السيادة اليهودية "في فلسطين. وكتب في أحد أعمدته، أنه بدلاً من أن يرضى اليهود بأن يكونوا "أقلية قومية" في أراضٍ أجنبية، تكمن "مهمّة الشعب اليهودي في أن يصبح أغلبية وطنية دائمة في وطنه [فلسطين]"، مشدّدا على أن لا شيء أكثر أهمية من "عملنا الاستعماري" في فلسطين. يستحضر لوفلير أيضا ما كتبه ليمكين في 1925: "يجب أن تُغرس في نفوس الرواد المهمة الوطنية... بسبب المشكلة العربية، يجب أن نؤكّد بشكل خاص على التعليم الاجتماعي والوطني لروّادنا... الذين يبنون إسرائيل".
ما تخشاه إسرائيل أكثر الانهيار الكامل لسردية المظلومية التي تستمدّ منها شرعيّتها
لم يكن ليمكين صهيونيا فحسب، بل كان مناضلا فاعلا في الحركة الصهيونية، إذ شارك في 1928، في إعادة تنظيم "المجتمع الصهيوني في وارسو" بقيادة جنرالات في الحركة الصهيونية. وبعد سنواتٍ من الكتابة والسجال، سيعمل ليمكين عام 1929 مدّعيا عاما للمحكمة الإقليمية، وسكرتير لجنة تدوين القانون الجنائي، لينتقل بذلك من الجدل الصحافي إلى مجالات المناصرة القانونية وتنظيم فعالياتٍ لجمع التبرّعات المالية لدعم الاستيطان الصهيوني في فلسطين.
يتطرّق لوفلير، إلى حدث طبع حياة ليمكين وأسّس لتنظيره بشأن جريمة الإبادة الجماعية، ويعود هذا الحدث إلى يوم 26 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1927، الذي أصدرت فيه هيئة محلفين باريسية حكما بالبراءة على شولم شفارتسبارد، وهو يهودي أوكراني اغتال السياسي الأوكراني سيمون بيتليورا في باريس، انتقاما لعائلته التي فقدها خلال مذابح تعرّض لها يهود أوكرانيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى. كتب ليمكين في أعمدته عن "جمال جريمة شفارتسبارد"، وجادل بأن الأخير قد ارتكب فعلا إجراميا ليس بدافع الغضب، وإنما باعتباره عضوا ينتمي إلى أمةٍ تعرّضت للظلم؛ جمال هذه الجريمة، حسب ليمكين، يعود إلى ارتباطها بجماعةٍ بأكملها، وليس بضحايا أفراد.
ويعتبر لوفلير أن فكرة التجربة الجماعية التي يحتاج القانون إلى الاعتراف بها (سواء بالنسبة للجماعات كضحايا أو كجهات فاعلة قانونية) قد بدأت تتبلور في ضوء تأملات ليمكين في هذه الجريمة. تطوّرت الفكرة بالفعل لدى ليمكين، وحثّ، في عام 1933، "المؤتمر الدولي لتوحيد القانون الجنائي" في مدريد، على أن يحظر القانون الدولي نوعين من الجرائم: "الهمجية" باعتبارها إبادة جماعة عرقية أو دينية أو اجتماعية، و"التخريب" التي تكمن في تدمير العمل الثقافي والفني لهذه الجماعات. لم يلق نداؤه آذانا صاغية في أوروبا، واتّجه في 1941 إلى أميركا حيث سيُخفي صهيونيته ليرسم لنفسه صورة رجل القانون الحريص على تجريم "الإبادة الجماعية"، إحقاقا للقانون والعدالة الدولية.
على عكس ما شاع عن أصول تنظير ليمكين لمفهوم الإبادة الجماعية، فإنها لم ترتبط في كتاباته إطلاقا بالمحرقة
على عكس ما شاع في الأوساط الإعلامية والحقوقية عن أصول تنظير ليمكين لمفهوم الإبادة الجماعية، فإنها لم ترتبط في كتاباته إطلاقا بالمحرقة، بل بجرائم الاستيطان الأوروبي، كما يوضح ذلك أندرو فيتزموريس، وجون دوكر وبارتيك وولف وغيرهم من الباحثين في دراسات الإبادة الجماعية. ويستدلّ الجميع بكتابه "حكم المحور في أوروبا المحتلة: قوانين الاحتلال، تحليل الحكومة، مقترحات للإنصاف"، الصادر في أواخر عام 1944. في هذا المؤلّف، جاء ليمكين بمفهوم "الإبادة الجماعية"، Genocide، الذي يشتقّ من الكلمة اليونانية “genos”، التي تعني العِرق أو الأمة أو القبيلة، ولاحقة “cide” اللاتينية التي تعني القتل، مضيفا في شرحه: "بشكلٍ عام، جريمة الإبادة الجماعية لا تعني بالضرورة التدمير الفوري والمباشر لأمةٍ ما […] وإنما يقصد بهذا المصطلح وجود خطّة تتكون من أفعالٍ مختلفة تهدف إلى تدمير الأسس الجوهرية لحياة المجموعات القومية، بهدف إبادة الجماعات ذاتها". والأهم أن تعريف ليمكين للإبادة الجماعية في هذا الكتاب يقترن بالمشروع الاستعماري الاستيطاني، إذ يوضح في وصفه مراحل الجريمة: "تتم الإبادة الجماعية في مرحلتين: الأولى، تدمير النمط الوطني للجماعة المٌضْطَهَدَة؛ وأخرى تفرض النمط الوطني للمُظْطَهَد".
استنادا إلى تاريخ الاستعمار الأوروبي، وتجريده الشعوب الأصلية من ملكيّتها وأوطانها، يضع ليمكين جريمة الإبادة في إطارها الاستيطاني الذي قد تؤدّي فيه سيطرة المستعمِر على شعب أو إقليم ما إلى عمل من أعمال الإبادة الجماعية. للأسف، اختفت العلاقة الوثيقة بين الاستعمار الاستيطاني والإبادة الجماعية من "اتفاقية الإبادة الجماعية" التي تبنّتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 9 ديسمبر/ كانون 1948، والتي تقول في مادّتها الثانية: "في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية، المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: قتل أعضاء من الجماعة. إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة. إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً. فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة. نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى."
يحثّ ليمكين اليهود الصهاينة على تكريس أنفسهم، روحا وفكرا وقلبا، لـ "الدولة اليهودية في طور التأسيس" في فلسطين
لقد ضيّقت الاتفاقية تعريف جريمة الإبادة الجماعية، لكن "إعلان الأمم المتّحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية" للعام 2007 عاد ليُذكّر بالعلاقة الضمنية بين الاستيطان والإبادة، وتنص المادة 7/2 أنه " للشعوب الأصلية الحقّ الجماعي في أن تعيش في حرية وسلام وأمن بوصفها شعوبا متميّزة، وألا تتعرّض لأي عملٍ من أعمال الإبادة الجماعية أو أي عملٍ آخر من أعمال العنف".
ويعزو لوفلير تستّر ليمكين عن صهيونيّته بالأساس إلى حرصه على الحصول على تصويت الدول العربية لصالح اتفاقية الإبادة التي ربما ما كانوا ليوافقوا على اعتمادها لو علموا بخلفية صهيونية صائغها، إلا أن الدافع قد يكون أعمق من ذلك، فلربما خجل الرجل من أن يكشف العالم ازدواجية موقفه وتضاربه بين رفضه جريمة الإبادة الجماعية المرتبطة بالمشروع الاستيطاني وتبنّيه مشروع إسرائيل الاستيطاني الذي يقوم حتما على إبادة الشعب الأصلي في فلسطين.
لا تختلف قصة ليمكين كثيرا عن قصّة المحامي البولندي الصهيوني هيرش لوترباخت، أحد مؤسّسي مشروع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وغيره من تشريعات حقوق الإنسان، الذي عمل قاضيا في محكمة العدل الدولية، وحرص كل الحرص على سرّيةّ المشورة القانونية التي قدّمها للوكالة اليهودية سنوات، وإسرائيل لاحقا. يصعب على أيقونات حقوق الإنسان مثلهما البوح بأيديولوجيتهما الصهيونية التي تنسف مصداقية عملهما في خدمة حقوق الإنسان، وهما يتأرجحان بين مناصرة اليهودي المضطهَد والصهيوني المُضطهِد، اليهودي الضحية والصهيوني الجاني، ذلك أن الصهيونية وحقوق الإنسان خطّان متضاربان لا يلتقيان.
اليوم، لا تقف إسرائيل وحدها في قفص الاتهام في لاهاي، بل تحاكم أيضا الصهيونية إلى جانبها، وقد دانتها شعوب العالم بعد أن سقط القناع عن لاإنسانية مجتمعٍ ينادي بإبادة الفلسطينيين، من القاعدة إلى القمّة. في كل الأحوال، يعود الفضل للمحامي ليمكين لتجريم الفظائع التي يرتكبها وطن أحلامه الصهيونية، في انتهاكٍ صريحٍ لاتفاقية منع الإبادة والمعاقبة عليها، مشروع حياته. وضع تنطبق عليه مقولة "انقلب السحر على الساحر".