ضوابط الجبهة الشمالية
يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لا يرى مخرجاً لأزمته، متعدّدة الأوجه، إلا في الدخول في حربٍ إقليمية تشدّ العصب الإسرائيلي إلى الأخطار الوجودية التي تحيق به، في ظل وجوده في منطقةٍ غير قابلة للتأقلم معه. هذا الواقع تشرحه المعطيات التي يدأب نتنياهو على تصعيدها ودفعها إلى مشارف الانفجار. اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، آخر هذه المحاولات، ولعلها أكثرها وضوحاً، لجرّ حزب الله، ومن خلفه لبنان، إلى أرض المعركة بشكل مباشر.
اغتيال العاروري حمل الكثير من الاختراقات لقواعد الاشتباك التي أرستها الاتفاقات الدولية، العلنية والمبطّنة، بين لبنان وإسرائيل. بداية من الاستهداف المباشر لشخصيات سياسية وعسكرية في الداخل اللبناني، وهو ما سبق أن حذر منه حزب الله، وصولاً إلى الضرب المباشر في قلب الضاحية الجنوبية، معقل حزب الله وحاميته، وهو ما كان من شأنه في أي ظرف من الظروف السابقة أن يشعل الجبهة اللبنانية إلى حدها الأقصى، ويحوّل بيروت إلى غزة أخرى. غير أن الظروف الحالية، والقدرة على قراءة ما يريده نتنياهو، تحولان دون ذلك.
يُحسب لحزب الله اللبناني اليوم أنه قادر على قراءة هذه المعطيات، والأزمة التي تعيشها إسرائيل عموماً، وبنيامين نتنياهو خصوصاً. فخلال أكثر من تسعين يوماً من الحرب في قطاع غزة، لم تستطع دولة الاحتلال الخروج بأي صورة من صور النصر التي أرادتها منذ بداية المعركة، باستثناء صور المجازر الكثيرة التي ارتكبتها في القطاع المحاصر، والتي تحولت إلى تهمة عالمية بالإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية. وفي ظل العجز عن تحقيق أي من الأهداف التي وضعتها الحكومة الإسرائيلية، سواء في القضاء على حكم حركة حماس أو قدراتها، أو اغتيال أي من الشخصيات المسؤولة عن هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهم أربع شخصيات أساسية، ممثلة بالقائد العسكري لكتائب عز الدين القسّام محمد الضيف، ورئيس "حماس" في غزّة يحيى السنوار، وشقيقه محمد السنوار، ونائب الضيف مروان عيسى، والذين تعتبرهم إسرائيل المسؤولين المباشرين عن "طوفان الأقصى"، قرر نتنياهو البحث عن صورة في مكان آخر، فاختار الهدف الأسهل، والذي يمكن أن يؤمّن له غايتين في آن واحد. صالح العاروري كان هذا الهدف، وهو الذي يتحرّك في لبنان بأريحية، ومن دون كثير من الاعتبارات الأمنية، كالتي يقوم بها المسؤولون العسكريون لحزب الله.
العاروري كان أحد أبرز الموضوعين على قوائم الاغتيال الإسرائيلية قبل عملية "طوفان الأقصى"، لارتباطه، بحسب إسرائيل، بتسخين الساحة في الضفة الغربية. وبالتالي اغتياله، وفق حسابات نتنياهو، يؤمّن واحداً من الأهداف التي وضعتها دولة الاحتلال، حتى وإن كانت هذه الأهداف مرتبطة بشكل مباشر بأحداث 7 أكتوبر. كذلك، فإنه يمكن أن يحقق مراد نتنياهو شخصياً بتوسيع جبهة القتال، والهرب من المحاسبات الداخلية والخارجية التي بدأت تلوح في الأفق.
غير أن حسابات نتنياهو لا تتماشى مع الرغبات الداخلية الإسرائيلية والخارجية الأميركية، ولا حتى مع حسابات حزب الله. فالأخير لا يرغب في تأمين مخرج لنتنياهو من ورطته الداخلية، إضافة إلى ورطة إسرائيل في العدوان على غزّة، وهو وإن كان حريصاً على عدم تمرير الاغتيال من دون رد، فهو حريص أيضاً على عدم دحرجة هذا الرد إلى حرب واسعة مع دولة الاحتلال.
الولايات المتحدة أيضاً غير معنية بتوسيع الجبهة خارج قطاع غزّة، وعلى هذا الأساس سارعت إلى تفعيل الاتصالات الدبلوماسية، وحتى عرض صفقة سياسية على لبنان، لعدم الانجرار إلى ما يريده نتنياهو، وهو ما ألمح إليه الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، في خطابه قبل يومين، حين أشار إلى إمكانية استعادة كل الأراضي اللبنانية التي لا تزال محتلة بـ"بركات" الحرب على غزّة. يضاف إلى ذلك رفض أركان حكومة الحرب الإسرائيلية توسيع جبهة القتال، والحديث أيضاً عن تفضيل "صفقة سياسية" مع لبنان، ومن خلفه حزب الله.
كل هذه المعطيات تؤشّر إلى أن الجبهة الشمالية للحرب، على الأقل حالياً، ليست في وارد التوسّع إلى أبعد من قواعد الاشتباك القائمة في هذه المرحلة.