طالبان وكلفة الانتصار
تكشف، بوضوح شديد، تصريحات قادة حركة طالبان، بخاصة الجناح المعتدل بقيادة رئيس المكتب السياسي، عبد الغني بيرادار، والناطق باسم الحركة ذبيح الله مجاهد، أنّ "طالبان" تعمل جاهدة على تقديم رسائل "طمأنة" للغرب، تؤكّد فيها أنّ تجربتها المقبلة في الحكم لن تكون شبيهة بالتجربة السابقة (1996 - 2001)، وقد صدرت إشارات في الاتجاه نفسه؛ مثل المفاوضات مع قيادات أفغانية معارضة للحركة ومحتربة معها (مثل حامد كرزاي، وعبد الله عبد الله، وقلب الدين حكمتيار)، فضلاً عن تأكيدها أنّها ستلتزم بحقوق الإنسان، مثل تعليم الفتيات وحرية الإعلام... إلخ.
أي نموذج نتوقع أن تقدّمه "طالبان الجديدة" في الحكم؟ وهل فعلاً تغيرت الحركة، أم أنّ الخطاب الحالي مجرّد تكتيك سياسي لتتجنب حصاراً وعداءً دولياً، وشراءً للوقت، إلى أن تسيطر على الحكم بصورة كاملة ونهائية؟ لا يوجد جواب بسيط ومطلق على هذه التساؤلات، إنما أجوبة متعددة ونسبية! فالحركة ليست نسخةً عمّا كانت عليه سابقاً، بكل تأكيد، وتعلّمت دروساً مهمة، وتطوّرت سياسياً وفكرياً، وهنالك جيل جديد له آراء ومواقف مختلفة. ومن ذلك، على سبيل المثال، العلاقة مع الجهادية العالمية، بخاصة تنظيم القاعدة. ومعروفٌ أنّ التفاهمات بين "طالبان" والأميركان في العام الماضي في الدوحة ركّزت على تعهد الحركة بألا تستخدم أراضيها ضد المصالح الأميركية والغربية. و"القاعدة" يدرك ذلك تماماً، ولن يذهب إلى إحراج الحركة أو وضعها في مأزق كما حدث في 11 سبتمبر/ أيلول 2001، عندما كان "القاعدة" سبب خسارة الحركة الإمارة والسلطة.
على صعيد نظام الحكم، في حال نجحت "طالبان" في إحكام سيطرتها تماماً على البلاد أو على أغلب الأراضي، فإنّها لن تقدّم نموذجاً يتجاوز تطبيق الشريعة الإسلامية، في إطار المدوّنة الفقهية التراثية، مع الحفاظ على الصيغة القبلية في الحكم، في أفضل الحالات، لأنّ بنية الحركة الأيديولوجية والتنظيمية لا تسمح بأكثر من ذلك، على الاقل على المدى القريب، فهنالك تيار أيديولوجي وجناح عسكري يمثلان البنية الصلبة في الحركة، ويشعران بنشوة الانتصار اليوم، ولن تمر أي تغييراتٍ جوهريةٍ وتحولات من بين أيديهم.
المساحة التي يمكن أن يتشكّل فيها النموذج الجديد في الحكم لـ"طالبان" تبدأ من استعادة النموذج السابق في الحكم، مع تعديلاتٍ طفيفةٍ في موضوعات تعليم المرأة والعلاقة مع الآخرين، والحرص على حفظ مصالح الدول الغربية وعدم الاصطدام معها. وكذلك الأمر في العلاقة مع دول الجوار (بخاصة: روسيا والصين وباكستان). وربما في أفضل الحالات يصل النموذج إلى تقديم نظام حكمٍ أكثر مرونة، ويفتح مساحةً جزئيةً ومحدودة للحريات العامة، وربما لتداول السلطة في إطار ضيق. أمّا الوصول إلى النموذج الإيراني (الديمقراطية الدينية) فهو سيناريو أعلى من المؤشّرات الواقعية لخطاب الحركة وبنيتها التنظيمية والأيديولوجية.
على الأغلب، سينجح الحكم الجديد في نسج علاقاتٍ خارجيةٍ أفضل، من المرحلة السابقة، وتجنّب، غالباً، عقوبات شديدة أو حروب مباشرة، لكن تبقى الأزمة الكبرى والتحدي الحقيقي أمام هذه الحركة تفصيل صيغة واقعية من الحكم. وتبدو المفارقة هنا أنّ العوامل التي مكّنت الحركة من البقاء والصمود وتحقيق الانتصارات العسكرية سابقاً هي العوامل نفسها التي ستشكل لاحقاً التهديد الأكبر لها وهي في الحكم، سواء كانت الأيديولوجيا الدينية الصلبة أو البنية التنظيمية المتماسكة. وإذا ما أفرز الحراك داخل الحركة التمسّك بالبنية الأيديولوجية والتنظيمية على حساب الانفتاح والمرونة والواقعية، فإنّ النتيجة هي دخول الحركة في أزمةٍ حقيقيةٍ مع الداخل الأفغاني والاصطدام به.
صحيحٌ أنّ نظام الحكم الأفغاني كان فاسداً وفاشلاً، بعد نهاية حكم "طالبان" في 2001، لكن ذلك لا ينفي أن المجتمع الأفغاني تغيّر، بخاصة الطبقة التكنوقراطية والوسطى والمهنية في كابول. وليس من السهولة بمكان العودة بهم إلى حكم دكتاتوري- ديني، كما كانت عليه الحال سابقاً. أما في حال كانت نتيجة الحراك داخل الحركة معكوسة، أي الانفتاح والواقعية والمرونة، فإنّ ذلك سيهدّد البنية التنظيمية الداخلية، وربما يؤدّي إلى تصدير خلافات الحركة وانشقاقاتها.
في المجمل، هي الأزمة نفسها، بدرجاتها وألوانها ومستوياتها المختلفة، تتكرّر مع "طالبان" فكلفة الانتصار العسكري قد تكون أكبر من كلفة الهزيمة، لأنّ تحديات المرحلة المقبلة أكثر تعقيداً وخطورة.