طبول من دون حرب
كان من المفترض أن تؤدّي تداعيات فيروس كورونا على سوق العمل والاقتصاد العالمي إلى خفض نفقاتٍ يُمكن اعتبارها "غير ضرورية"، والتركيز على قطاعاتٍ تأثرت بشدّة من الوباء، مثل القطاعين الصحي والتوظيفي. وعزّزت الأرقام السلبية لمعظم اقتصاديات العالم في العام الحالي هذه الفرضية، ما يعني أن اقتصاد الطوارئ، الناشئ على عجل لمواجهة تحدّيات كورونا، استُنزف بكثافة بفعل تفشي الفيروس من جهة، ولعدم وجود خططٍ معدّة مسبقاً لمواجهة انتشار وباء من جهة أخرى. بالتالي، كان غريباً، نظرياً، حديث رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، عن تخصيص زيادة قدرها 22 مليار دولار للسنوات الأربع المقبلة، للإنفاق العسكري في بلاده، مرفقاً ذلك بقوله إن "الوضع الدولي محفوف بالمخاطر والتنافس حادّ أكثر من أي وقت مضى منذ الحرب الباردة (1947 ـ 1991)". ولم يكن حديث جونسون مفاجئاً، فقد عكف مسؤولون بريطانيون، في الأسابيع الأخيرة، على الحديث بنبرة عسكرية، مثل قائد الجيش البريطاني، نيك كارتر، الذي نبّه من احتمال وقوع حرب عالمية ثالثة. وبرزت تقارير أيضاً عن تطوير الصناعة العسكرية البريطانية آلات (روبوتات) للقتال في المستقبل بدلاً من البشر، بالإضافة إلى حديث بريطانيا وكندا عن استهدافهما إلكترونياً من روسيا والصين وإيران.
في الواقع، يتنامى الحديث عن احتمالات نشوب صراعٍ عالمي، بعد عامين مشحونيْن بالتدريبات والمناورات "الكبرى" في تاريخ دول ومنظومات. روسيا مثلاً أقامت أكبر مناوراتٍ لها منذ خلافتها الاتحاد السوفييتي عام 1991، في الشرق الروسي في سبتمبر/ أيلول 2018. وتبعها حلف شمال الأطلسي (الناتو) بتنظيمه أكبر مناورات له في النرويج منذ أكثر من 40 عاماً، في أكتوبر/ تشرين الأول 2018. وتبع ذلك استعراضٌ عسكري هو الأكبر للصين منذ انتصار الثورة الشيوعية في 1949، وذلك في سبتمبر/ أيلول 2019.
قد يعني هذا الأمر لكثيرين مجرّد رفع سقوف لاستثماره في الضغط السياسي. ويبدو هذا المنطق واقعياً في حال أخذنا بالاعتبار طريقة التعاطي الروسي ـ الأميركي في ملف معاهدة "ستارت 3" (خفض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية)، الموقّعة في عام 2010 وتنتهي في فبراير/ شباط المقبل، فروسيا تسعى إلى تمديد المعاهدة من دون شروط مسبقة، في مقابل بذل الولايات المتحدة مساعيها لتغيير شروط الاتفاقية، لجهة تجميد الروس ترسانتهم النووية، بالإضافة إلى ضمّ الصين للمعاهدة، وهو ما ترفضه روسيا. يبدو النقاش الروسي ـ الأميركي أقرب إلى لعبةٍ سياسيةٍ منه إلى توزيع جنود على ساحات قتال متفرقة، فموسكو وواشنطن لا تتصرّفان وكأن الحرب واقعة غداً في حال لم يتفقا بحلول فبراير المقبل، بل وكأنهما في نقاش محموم، في ترسيخ لعقيدة سادت منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، تحديداً بعد اختبار الصواريخ الكوبية عام 1962، وهي "البلدان يتجنّبان قدر الإمكان المواجهة المباشرة".
في المقابل، الصين، التي تمتعت بمفردها من الدول الصناعية الكبرى، تقريباً، بنمو اقتصادي شبه ثابت في العام الحالي، على الرغم من فيروس كورونا، وقّعت أخيراً "اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة"، مع 14 دولة، عشر منها من دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، بالإضافة إلى أستراليا ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية واليابان، أي الدول الحليفة للولايات المتحدة. وهو اتفاقٌ يسمح بإنشاء أكبر كتلة تجارية في العالم، تؤثر على 2.1 مليار شخص، أي نحو ثلث العالم. بالتالي، لا يحتاج مثل هذا الاتفاق إلى ما يضرّه، تحديداً الأعمال العسكرية، فبقدر ما يكبر حجم الأعمال وحجم المساهمين فيها، بقدر ما تنخفض التوترات المؤدّية إلى صراع أممي، على الرغم من تكريسها، على الأرجح، استمرار الحروب الإقليمية أو نشوء أخرى، من دون تدحرجها إلى حرب عالمية ثالثة. قواعد السوق شبه موحّدة شرقاً وغرباً، وأمميته تسمح بإنشاء شبكات تلاقٍ ونقاط مشتركة تخفف بشدّة من احتمال عودة الزمن إلى عامي 1914 و1939.