طلبة المغرب... الكوفية تتويج لإنسانيتنا
مخجلٌ حقاً أن يصير ارتداء الكوفية في بلد كالمغرب أمراً يستحق الإشادة والتنويه، ومخجلٌ أيضاً أن تصير الكوفية سبباً في التحفّظ والازدراء. إنها مسألة في غاية الخطورة، وتشي برائحة القاع النتنة التي صعدت إلى القمة. كذلك تشي بنتائج سوء التدبير الثقافي والسياسي والوطني في كيان المجتمع. فالأصل أن الكوفية والعلم الفلسطيني مما هو متجذّر في الوجدان والشعور المغربي. وهما مما لا حاجة بك لتشرح وتعيد لأيٍّ كان ارتباطهما بالمغاربة، خُذ نفساً عميقاً، وابدأ بكل مجالات انشغال المغاربة، لتجد أن فلسطين تحضُر في كل شيء، فحتى الحاجّ المغربي كانت زيارته القدس، في زمن مضى، جزءاً من حجه المبرور وعرفاً مسلَّما به عند المغاربة، فهل حملت المياه أسفل القش ما لم يُحسَب حسابُه اليوم.
ما تعرّضت له إحدى الطالبات في حفل توزيع الجوائز على المتفوّقين في حفل تخرّج طلاب المدرسة العليا للتكنولوجيا في الدار البيضاء، حينما امتنع عميد كلية العلوم في 14 يوليو/ تموز الجاري تسليمها الشهادة ما لم تُزل الكوفية عن كتفيها، أمر قبل أن نستنكره أو ندينه يجب أن نعي أنه مدعاة قلق كبير ودافع قوي لاستشعار خطر ثقافي ووطني وديني وسياسي في غاية الخطورة.
وكما قال الزعيم المغربي الراحل، علال الفاسي يوماً، لا يمكننا أن نتعامل مع مثل هذه الأشياء بمنطق الارتجال، وإنما أن نتخذ كل ما يلزم من تدابير لتقويم الاعوجاج. وإلا فسنكون جميعاً مشاركين في استفحال الخطر، ونغرق جميعاً في أتونه. لكن، ينبغي أن نعلم أن القصة لم تبدأ مع الحدث سالف الذكر، وإنما سبقها فعلٌ مشابه، وببشاعة أكبر، رغم أنه لم يحظَ بالاهتمام والاستنكار المطلوبين، حينما ألغت جامعة محمد السادس متعددة التخصّصات التقنية في مدينة بنجرير (تبعد عن مراكش 74 كلم)، فجأةً، حفل التخرّج الذي كان مقرّراً في 12 يوليو/ تموز 2024، حينما علمت أن الطلبة عازمون على تأدية عدة أشكال رمزية سلمية تضامناً مع معاناة قطاع غزّة، حسب ما نقلته صحيفة صوت المغرب عن بعض الطلبة.
وقد أطلق طلبة الكلية في مبادرة ضمت أزيد من 1200 طالب ما أسموها "مبادرة طلبة وخرّيجي جامعة محمد السادس متعددة التخصّصات التقنية ضد التطبيع الأكاديمي"، التي قابلتها الكلية بالرفض. ومما هو مثيرٌ في تقرير الصحيفة تصريح الطلبة بذلك المنصب العالي الذي أحدثته الكلية تحت اسم "مكلف بمهمة لدى الرئيس مسؤول عن الشراكات الإسرائيلية"، ويضيف الطلبة أن هذا المنصب استُحدِث لإسرائيل وحدها، دون أي دولةٍ أخرى، في بادرة ليس لها إلا عنوان بارز، هو "الإمعان في العبث والاستفزاز"، حسب تعبيرهم.
ثمّة حاجة إلى مراجعات حقيقية ذات بعد أكاديمي جادّ، يشتبك فيها السوسيولوجي والديني بالثقافي والسياسي والفلسفي
مؤكدٌ أن سلوك هذا المسؤول الإداري ليس مما يمكننا تعميمه على الجميع، كما هو حاصلٌ مع التطبيع، الذي يخرج المغاربة عبر جلّ مدن البلاد تنديداً به بشكل غير منقطع منذ إبرامه. لكن لا بد أن نقف عند الحدث، لتأكيد الحاجة إلى مراجعات حقيقية هذه المرّة، ذات بعد أكاديمي جادّ، يشتبك فيها السوسيولوجي والديني بالثقافي والسياسي والفلسفي، وينخرط فيها كل الفاعلين المجتمعيين، وفي مقدمتهم الجامعيون، قصد القيام بما عليهم تجاه تغير قيمي كهذا، ذلك أن تنديدهم قبل أن يكون بالشعار أو بأي سلوكٍ كان، ينبغي أن يكون بحثياً، يقدم على تفكيك نقدي لسياسة "تازة قبل غزّة"، التي انتهجها المغرب، وتأثيراتها في مختلف جوانب المجتمع المغربي، وكذلك تحليلاً نقدياً لكل السلوكيات التي تُبديها مختلف الحساسيات الإيديولوجية تجاه القضية الفلسطينية، والتي صار بعضُها مستفزاً بشكل كبير لمشاعر جلّ المغاربة، ويخلط بين حقوق السكان الأصليين وحقهم الذي لا ينازع فيه أحد ونزوع كراهية القضية الفلسطينية كما هو الشأن عند بعض الحساسيات الأمازيغية المتطرّفة. والغرض من هذا الجهد البحثي الأكاديمي والثقافي أن نسجّل بدقة التحوّلات التي يعرفها المشهد السياسي والثقافي أو الفاعلون السياسيون والثقافيون المغاربة تجاه أم القضايا وضمير الإنسانية العالمي.
يرصد مهتمّون وخبراء عديدون بتخوف شديد التحولات القيمية التي طرأت على المجتمع المغربي في العقد الأخير، والتي بدأت تطفو نتائجها على السطح، ممثلة في نسب مقلقة شغلت مجالات اجتماعية معينة بالأخص داخل نواة المجتمع التي هي الأسرة (نذكُر مثلاً ارتفاع نسب الطلاق الذي سجلته المندوبية السامية للتخطيط في 2022)، وغير ذلك، إلا أن سلوك الطلبة، الذين يحسبون على الجيل الجديد، يهشّم هذه الأحكام المطلقة كما يهشّم تشاؤميتها المفرطة، بالطريقة نفسها التي هشّمت بها الثورات في 2011 خلاصات سوسيولوجيين عديدين في العالم بشأن حقيقة المجتمعات العربية الإسلامية. ذلك أن هذه المبادرات التي يخوضها الطلبة صور أخرى لمستقبل هذه البلاد، في جامعة تُعَدّ في المغرب اليوم من أقوى وجوهه العلمية. ولذا، الأمل كبير، من دون أن يُغفل تنديد الأساتذة على قلته (مثل وقفة إيقاف التطبيع لأساتذة في جامعة عبد المالك السعدي في مايو/ أيار الماضي).
لا ينبغي أن يُنسى أن الأمر يستدعي، بحسٍّ وطنيٍّ وحقوقيٍّ عالٍ، فتح تحقيق في هذه الحادثة المشينة (كما طالبت نقابة الطلبة وبعض نقابات التعليم العالي)، التي أضرّت بمشاعر واحدة من أنجب أبناء الوطن، وزادت من خدش صورة المغاربة عموماً، ثم أضرت بحقٍّ من حقوق الإنسان الكونية، وهو الحقّ في الفرح والتتويج والاعتراف والاعتزاز والفخر، وقبل ذلك كله حقها في التعبير وإبداء الرأي.