"طوفان الأقصى" وازدواجية الصين: عسكرة إسرائيل فوق النقد
"حان الوقت لأن تعترف إسرائيل والولايات المتّحدة بالحقيقة: الحزب الشيوعي الصيني عدو لأميركا، وعدو لدولة إسرائيل". هكذا اختتم الكاتب والحاخام الإسرائيلي بيساش ووليكي مقالته المنشورة في يوليو/ تمّوز الحالي في موقع صحيفة نيوزويك الأميركية بعنوان "الصين تشنّ حرباً بالوكالة على إسرائيل". وفي مقال آخر، نشر في الموقع نفسه، قال الكاتب الأميركي ديفيد غولدمان: "بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، تحوّلت السياسة الصينية بشكل حاسم ضدّ إسرائيل. واصطفّ المُعلّقون ومستخدمو الإنترنت الصينيون ضدّ الدولة اليهودية مثل برادة الحديد على ورقة تحتها مغناطيس".
كانت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول (2001) إحدى التشبيهات الإسرائيلية والغربية للسابع من أكتوبر (2023). ولذلك، استخدم الإسرائيليون منذ اندلاع الحرب المنطق الأميركي: "من ليس معنا فهو ضدّنا"، وخاصّة مع الصين، جاحدين تماماً الخدمات الكبرى الملموسة التي قدّمتها الصين لهم منذ عام 1992، من دعم مباشر أو غير مباشر للمشروع الصهيوني، ودعم الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتشجيع التطبيع العربي، فضلاً عن الاستثمار في المستوطنات الإسرائيلية. فمن خلال متابعة ما ينشره كُتّاب إسرائيليون وأميركيون بشأن دور الصين في الحرب الحالية، نستخلص أنّ جزءاً كبيراً، إن لم يكن كاملاً، من تحليلاتهم بُني على التصريحات والمواقف الصينية في الأمم المتّحدة فقط. رسمياً، انتقدت الحكومة الإسرائيلية موقف الصين، واعتبرته "مخيّباً للآمال"، وفي الوقت نفسه، طالب رجال أعمال إسرائيليون بحظر عمل الشركات الصينية في الموانئ الإسرائيلية مُؤقّتاً. عملياً، وبعيداً من المواقف الكلامية والدعم الصيني اللفظي "حلّ الدولتين"، الذي يتناقض تماماً مع شرعنتها الاستيطان عبر الاستثمار فيه، إلا أنّها ما زالت، كما الولايات المتّحدة والدول الحليفة لإسرائيل، لم تستخدم مصطلح "الإبادة الجماعية"، واعتمدت تعبير "كوارث إنسانية"، وطالبت بضرورة احترام المخاوف الأمنية للاحتلال الإسرائيلي، وطالبت بإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين من دون شرط، ومن دون الإشارة إلى آلاف الأسرى الفلسطينيين، وفوق ذلك كلّه، تعامت مُتعمّدة عن عسكرة واشنطن لإسرائيل والدعم الحربي اللامحدود.
"أنانية، ومتغطرسة، ومنافقة، وقبيحة". بهذه الكلمات بدأت الصين وثيقة نشرتها بشأن المساعدات الأميركية الخارجية المالية والعسكرية وتداعياتها "الكارثية" على الأمن الدولي. بعد سبعة أشهر من الإبادة الجماعية في قطاع غزّة (19 إبريل/ نيسان الماضي). الوثيقة التي نشرتها وزارة الخارجية الصينية بعنوان "نفاق وحقائق المساعدات الأميركية الخارجية" تكمن أهمّيتها، فلسطينياً، في تغاضي الصين كلّياً عن العسكرة الأميركية لإسرائيل، ليس فقط خلال الحرب الحالية، بل تاريخياً. وبالتالي، توضّح هذه الوثيقة أنّ أولويات الصين الجدّية في الشرق الأوسط تأتي لصالح إسرائيل في الدرجة الأولى برغم مواقفها الداعمة لفلسطين في الأمم المتّحدة.
انتقدت الصين المساعدات العسكرية الأميركية لدول عديدة منذ 1949، لكنّها تجاهلت التطرّق إلى المساعدات الأميركية لإسرائيل
انتقدت الصين بشدّة المساعدات العسكرية الأميركية لدول عديدة منذ 1949، متّهمة إيّاها بـ"الربح من الأزمات الإنسانية ونشر الفوضى والحروب في العالم"، لكنّها تجاهلت، بشكل ملحوظ، التطرّق إلى المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل. في الشرق الأوسط، أشارت الصين إلى الدور العسكري والحربي الأميركي "المدمّر" في عدة دول عربية، لكنّها استثنت فلسطين، فقالت الوثيقة: "لقد ارتبطت المساعدات الخارجية منذ فترة طويلة بمصالح تجّار الأسلحة، وأصبحت غطاءً للهيمنة العسكرية للولايات المتّحدة. والولايات المتّحدة لا تحقق أرباح الحرب من خلال الأزمات الإنسانية فحسب، بل إنّها تضيف الوقود إلى النار من خلال مشاريع المساعدات... واليوم، من أوكرانيا والعراق وأفغانستان وليبيا وسورية إلى باكستان واليمن، فإنّ لتدخّل المساعدات الخارجية الأميركية علاقة بالأزمة الإنسانية التي تواجه هذه البلدان". وبالرغم من أنّ الحرب الإسرائيلية بدأت بعد ما يقارب السنتَين من الحرب الروسية الأوكرانية، إلّا أنّ الصين ركّزت على تفاصيل المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا، وتتبّعتها منذ اندلاع الحرب، واعتبرتها السبب في "إطالة الأزمة"، واصفةً إيّاها بمثابة "صبّ الزيت على النار"، فقالت: "أدّت المساعدات الخارجية إلى إطالة أمد الأزمة في أوكرانيا. اعتباراً من يناير/ كانون الثاني 2023، بلغ التزام الولايات المتّحدة تجاه أوكرانيا 76.8 مليار دولار، شكّلت المساعدات العسكرية الحصّة الأكبر منها: 46.5 مليار دولار، أو 61%. وكشفت وسائل الإعلام الأميركية أنّ 40% من المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا تُستخدم في الشراء الإلزامي للمعدّات الأميركية وخدمات التدريب المعروفة باسم "المساعدة المُقيّدة". جزء من المساعدات العسكرية قرض مالي سيصبح مسؤوليةً طويلة الأجل لأوكرانيا. يطرح هذا تساؤلاً مُهمّاً: ألم يكن الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل السبب الرئيسي في إطالة أمد الإبادة الجماعية في فلسطين، وتجويع المدنيين، وتشريدهم؟ ألم تكن أميركا شريكاً مباشراً في الحرب الإسرائيلية على فلسطين؟
وبالرغم من أنّ إسرائيل، حسب بعض الدراسات، تصنّف أكبرَ متلقٍّ للدعم العسكري الأميركي عالمياً، تتبّعت الصين تاريخ التمويل والدعم العسكري الأميركي الدولي للحروب والنزاعات الإقليمية، منذ 1949، مستثنية إسرائيل كلّياً. بدأت الصين وثيقتها منذ عهد الرئيس الأميركي ترومان، وأشارت إلى أنّه منذ ذلك الوقت، "كان الهدف الأساسي للمساعدات الخارجية الأميركية دائماً خدمة مصالحها الخاصّة وحماية أمنها". وتجنّبت الإشارة إلى توريد حكومة ترومان مئات المليارات للحكومة الإسرائيلية الأولى لتعزيز سيطرتها على فلسطين عسكرياً. ومقارنة بالدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا، المشار إليه تفصيلاً في الوثيقة، تجنّبت الصين كلّ ما يتعلق بإسرائيل، مثلاً: قرار الولايات المتّحدة لعام 2008، الذي نتج عنه التزام أميركي بتقديم دعم عسكري ومالي سنوي ثابت لإسرائيل بقيمة 3.3 مليارات دولار. بالإضافة إلى مذكرة تفاهم لعام 2016، التي وقّعت لمدة عشر سنوات، تُفضي إلى تقديم واشنطن مساعدات ومنح عسكرية لإسرائيل تصل إلى 38 مليار دولار. تُؤكّد هذه الوثيقة، التي نشرت بعد سبعة أشهر من الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل في حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزّة، مرّة أخرى، أنه لا يمكن للصين أن تلعب دوراً حياديّاً أو بنّاءً كما تدّعي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لم يكن الدعم الأميركي خلال الحرب الحالية مخفياً، فقد وصل إلى حدّ إرسال بارجتَيها (إيزنهاور وفورد) إلى الإقليم. بالإضافة إلى تزويد إسرائيل بالأسلحة الثقيلة والصواريخ، التي بلغت قيمتها 12.5 مليار دولار، وتشمل 3.8 مليارات من مشروع قانون نشر في مارس/ آذار 2024، و8.7 مليارات دولار من قانون الاعتمادات التكميلية في إبريل/ نيسان 2024. لم تكن إسرائيل لتستطيع الصمود إلى يومنا هذا، عسكرياً، لولا دعم واشنطن، ولولا هذا الدعم لما دمّرت إسرائيل قطاع غزّة كلّياً، ولولا الدعم السياسي الأميركي لما ارتكبت إسرائيل جرائم الحرب، كالإبادة والتهجير القسري، والتجويع والعقاب الجماعي، والقائمة تطول.
خلال الحرب على غزّة، لم يخرج انتقاد الصين للولايات المتّحدة عن سياق دور واشنطن في الأمم المتّحدة وإعاقتها مقترحات وقف إطلاق النار
خلال الحرب، كان انتقاد الصين للولايات المتّحدة لا يخرج عن سياق دور الأخيرة في الأمم المتّحدة وإعاقتها مقترحات وقف إطلاق النار. على سبيل المثال، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 انتقدت الصين عدم قدرة مجلس الأمن على إصدار قرار لوقف إطلاق النار، إذ طالبته بالتخلّص من العوائق التي تحول دون اتّخاذ القرار، والمتمثّلة في الفيتو الأميركي. وفي مثال آخر، في 22 فبراير/ شباط 2024، انتقدت بكين استخدام واشنطن الفيتو قائلة "إنّ استخدام الولايات المتّحدة حقّ النقض قبل يومَين يعني أنّ المجلس أضاع فرصة أخرى للدفع باتجاه وقف إطلاق النار في غزّة". ورغم أنّ إسرائيل إحدى ملفّات المنافسة بين بكين وواشنطن، من وجهة نظر الأخيرة، إلا أنّ الوثيقة تظهر أنّها خارج المنافسة من وجهة نظر الصين. وهذه ليست المرّة الأولى التي تستثني فيها الصين إسرائيل في سياق منافستها مع واشنطن. ففي فبراير 2023، كانت الصين قد نشرت وثيقة كاملة عن تاريخ واشنطن الدموي في العالم كلّه بعنوان "الهيمنة الأميركية ومخاطرها"، وتعامت تماماً عن إسرائيل. هذا التجنّب المتعمّد في الوثائق الصينية يشير إلى نقطتَين رئيسيتَين: أولاً، أنّ إسرائيل تحتلّ أولوية قصوى بالنسبة للصين في الإقليم، خاصّة خلال الحرب الحالية. ثانياً، يثير شكوكاً حول صدق دعم الصين لفلسطين، والذي لا يعدو أنّه "كلام". وبالتالي، تبرز إسرائيل كياناً يَحظى بالتوافق بين العاصمتَين العالميتَين المتنافستَين، بكين وواشنطن.
لذرّ الرماد في العيون، ذكرت الصين سياسة واحدة من سياسات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تجاه فلسطين، وهي توقّف واشنطن عن دعم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). وأضافت الصين "نتيجة لذلك، وقعت الوكالة في أزمة مالية خطيرة، حيث لم تتمكّن من العمل من أجل قضية اللاجئين الفلسطينيين، واضطرّت إلى تقليص الخدمات وتسريح العمال". وورد أنّ هذه الخطوة تهدف إلى الضغط على فلسطين لقبول ما تسمّى "صفقة القرن" الأميركية.
تجنّب الصين التطرّق إلى الضوء الأخضر الأميركي للإبادة الجماعية الإسرائيلية، والدعمين العسكري والمالي، يثير تساؤلاً مُهمّاً: هل يعني ذلك قبول الصين بتسليح إسرائيل الضخم بغض النظر عن تداعياته الخطيرة على الفلسطينيين؟... اختتمت الصين وثيقتها بقائمة طويلة من الإهانات الموجّهة جزئياً ضدّ الدعم الأميركي العسكري الخارجي لكلّ الدول إلا إسرائيل: "منافقة" و"جشعة" و"ماكرة"، ارتكبت "الآثام" و"الجرائم"، وأدّت إلى "كوارث عميقة" في النظام الدولي.. ما عدا فلسطين (!)