عائدٌ من النجف
بعد خمسة أشهر على زيارة لبغداد (انظر لكاتب هذه السطور مقالته "عائد من بغداد" في "العربي الجديد"، 2/10/2022) أتيحت لي زيارة أخرى لمدينة النجف، بدعوة من مركز الرافدين للحوار، للمشاركة في مؤتمرٍ عن الشباب وتطلعاتهم والتحدّيات التي تواجههم، وكانت فرصة ثانية للنقاش والحوار مع نخبة من الجيل العراقي الشاب، خاصة المندمجين في مؤسّسات المجتمع المدني هناك، للمقارنة مع النقاشات السابقة مع "الشباب البغدادي"، وغالبيتهم، في النجف وبغداد، ممن شاركوا في انتفاضة تشرين 2019.
لم تُظهر "نقاشات النجف" أي اختلاف جوهري بين هذه النخبة المتعلمة والمثقّفة من الشباب في المدينة التي تحظى بقدسية كبيرة لدى الشيعة (في العالم كله) عن شباب بغداد، فهذه النخب الشبابية ضاقت ذرعاً بالأوضاع القائمة، ولديها خطابٌ نقدي عالٍ تجاه القوى السياسية الشيعية المسيطرة على السلطة، منذ احتلال العراق 2003. ولا يرى هذا الجيل أنّ الطبقات السياسية الجديدة قد حقّقت تطلعاته، بل على النقيض من ذلك أغرقت البلاد في سوء الإدارة والفساد السياسي والإداري.
لا يمكن، بطبيعة الحال، الوصول إلى تعميماتٍ هنا، من خلال مقابلاتٍ محدودةٍ مع مجموعات من الناشطين الشباب. لكن ثمّة، في المقابل، متغيرات من الضروري أخذها بعين الاعتبار، في مقدّمتها ما نطلق عليه "الجيل السياسي"، وهو مصطلح أصبح مستخدماً بكثافة منذ الربيع العربي، مع الاحتجاجات الشعبية والثورية التي اجتاحت دولاً عدة (شهدت العراق والجزائر والسودان ولبنان النسخة الثانية من الربيع العربي)، فهنالك اتجاه واسع من جيل الشباب يشعر بالغضب ويريد التغيير، وهو الذي شارك في احتجاجات تشرين (أصبح يطلق على الشباب المشاركين في الاحتجاجات "التشرينيين")، لذلك نتحدّث عن اتجاه عريض واسع من الشباب، أغلبهم شيعة، في أغلب المحافظات العراقية.
التشرينيون، وإن كانوا غالباً من الشباب الشيعي، ليسوا من خلفية أيديولوجية واحدة، ولا حتى ثقافية واجتماعية موحّدة، فهو جيل عابر للأيديولوجيات والثقافات والاتجاهات الفكرية والطبقات. صحيحٌ أنّ هنالك دوراً قيادياً لجيل الشباب من الطبقة الوسطى، المتعلمين، طلاب الجامعات، المنخرطين في المجتمع المدني، لكنّ نسبة كبيرة من المشاركين في الاحتجاجات من الطبقات الفقيرة والكادحة، ونسبة منهم غير متعلّمة، خرجوا للتعبير عن سخطهم على الطبقة السياسية الجديدة التي لم تنجح بإيجاد حلول لمشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية.
في بحثه المهم "تحولات الهوية في خطاب الإسلام السياسي الشيعي" (ضمن كتاب "الحوزة والدولة: الإسلام الشيعي.. أسئلة السلطة والمرأة والجيوبوليتيك، معهد السياسة والمجتمع تحرير عبدالله الطائي، عمّان، 2022) يقدّم عقيل عباس مقارباتٍ لافتة عن الخطاب الهوياتي بين ثلاثة أجيال سياسية عراقية: الأولى التي صاغت أيديولوجيا الإسلام السياسي الشيعي في الثمانينيات (تقاطعت مع مقولات الإسلام السياسي عموماً وتأثرت بها)، والثانية التي صاغت خطاب القوى السياسية الشيعية غداة احتلال العراق، فنقلت الخطاب السياسي الشيعي نحو المظلومية التاريخية للشيعة، واستعادة السلطة والدور ومواجهة القوى السنية، ثم الجيل الجديد من الشباب، وبعضهم من تيارات الإسلام السياسي الشيعي سابقاً، ومن قوى سياسية أخرى، بدأت تتلاشى لديه تلك المقولات، ويركّز على قضايا سوء الإدارة والحكم والفساد وتحسين الخدمات، ويرفض القبول بالوضع القائم بذريعة الخشية من الأعداء المتربصين بـ"الحكم الشيعي".
خلال الاستماع لقيادات سياسية شيعية وتوجّهاتها وموقفها من "التشرينيين"، نجد لغة مواربة ومركّبة، مثلما حدث خلال الجلسة الحوارية في المؤتمر مع وزير التعليم العالي العراقي، نعيم العبودي، عندما سئل عن موقفه من الشباب التشريني، ومسؤولين آخرين التقيناهم على هامش الجلسات، فهم يتحدّثون عن حقوق مشروعة للشباب، لكن قوى سياسية استغلتها. والطريف أنّ عقيل عباس يشير (في بحثه) إلى أنّ خطاب القادة السياسيين العراقيين اتسم بلغة التخوين والاتهام لهؤلاء الشباب، وبعضُهم وصفهم بعملاء السفارات!
لا تجد موقفاً موحّداً لدى الشباب تجاه الدين والعقائد الدينية، فهنالك طائفة من المتدينين، والعلمانيين، والمشكّكين بالدين، ومن يحاولون التوفيق بين العقائد والعقل. لكن من الواضح أنّ المعركة السياسية لهذا الجيل لم تنته، وأنّ الدين ليس هو القضية، بل السلطة السياسية، والآمال المؤجّلة بزمن الحرية والكرامة ومكافحة الفساد.